سعد الله مزرعاني *مناسبة هذا الكلام، معظم ما نسمعه غالباً، كل يوم، وفي كل المناسبات. ونتوقف منه الآن عند مؤتمر «البيال ــ رقم 2»، لفريق «14 اذار»، الذي عُقد في الموعد السنوي نفسه يوم السبت الماضي. بدءاً، يجب ملاحظة أن لهجة بيان هذه السنة قد اتسمت بنبرة أكثر اعتدالاً من تلك التي سمعناها في السنة الماضية. الأسباب داخلية وخارجية، أي محلية وإقليمية ودولية. نعدّد أبرزها: اختلال نسبة القوى لغير مصلحة فريق 14 آذار في المواجهات السياسية والأمنية التي كرّسها «اتفاق الدوحة» في شهر أيار الماضي (وخصوصاً إثر أحداث السابع منه). عجز حلفاء فريق 14 آذار (عرب «محور الاعتدال» و«المحافظون الجدد» في إدارة الرئيس جورج بوش) عن تقديم أي دعم وحماية لهذا الفريق، في الصراع الذي دُفع إليه من جانبهم، ثم تُرك فيه وحده ليحصد الخسارة أو حتى الهزيمة، وخصوصاً في العاصمة بيروت. تضعضع حلف «عرب الاعتدال» نتيجة خيبتهم من التراجعات والإخفاقات الأميركية والإسرائيلية (في العراق وفي لبنان...). إخفاق مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، وإقرار معاهدة الانسحاب من العراق، وهزيمة الحزب الجمهوري وكل المحافظين القدماء والجدد في الانتخابات الأميركية أمام مجهول ومواطن «من الدرجة الثانية»، ملوّن وملتبس الانتماء والهوية والدين، هو باراك حسين أوباما.
بكلام أقل «خشبية»، لقد ترك التقارب السعودي ـ السوري ـ المصري أثاراً واضحة على لغة البيان وحتى على بعض مضمونه، وخصوصاً في موضوع العلاقات اللبنانية ـ السورية. ففي هذا الحقل نقرأ في البند الثالث من البرنامج: «إنهاء الخلاف مع سوريا... وبناء علاقات طبيعية وودية معها استناداً إلى اتفاق الطائف وعلى قاعدة الأخوّة والندِّية والمصالح المشتركة...». هذا الكلام السليم عموماً، والمدموغ بنكهة التراجع السعودي حيال سوريا والمصالحة معها، ناقص إلى أبعد حد. ذلك أن فريق 14 آذار وبعض أطرافه ممن اعترفوا بذلك علناً (ومنهم رئيس «اللقاء الديموقراطي الأستاذ وليد جنبلاط) قد انزلقوا إلى سياسات نشيطة للتدخل في الشؤون الداخلية السورية. وقد فعلوا ذلك في سياق سياسة أميركية مبرمجة رمت إلى تغيير النظام السوري في البدايات (2005 ــ 2006)، ثم اكتفت (وخصوصاً بعد هزيمة إسرائيل في لبنان في تموز عام 2006، بمحاولة تغيير سياسات هذا النظام، فحسب. والتدخل اللبناني الرسمي وكذلك تدخل فريق 14 آذار في الشؤون السورية، كان سياسياً ومالياً وأمنياً...
هل نطلب من فريق 14 آذار أن يعترف بذلك، وأن يتعهد عدم تكراره؟ هذا كما ذكرنا في المقدمة، غريب عن «تقاليد» العمل السياسي في لبنان. ولذلك، هو واقعياً، غير ممكن، وخصوصاً في مرحلة حسّاسة كالفترة الحالية التي تسبق الانتخابات النيابية اللبنانية في السابع عن حزيران القادم. لكن، مع ذلك، ومع اعتبار مثل هذا المطلب «تعجيزياً» بامتياز، يمكن، مطالبة تحالف 14 آذار بالكف عن خداع اللبنانيين بشأن عفة موقفه حيال العلاقة بالمحاور الخارجية. وهنا يصبح تخيير اللبنانيين بين التبعية التي تنسب إلى خصوم تحالف 14 آذار دون سواهم، إمعاناً في تزوير الوقائع وفي ادّعاء العفّة.
إن أول شروط تحرير لبنان من التبعية، إنما يتجسد في ضرورة فك الارتباط مع الهيمنة الأميركية على لبنان. ومعروف أن بقايا هذه الهيمنة ما زالت قائمة. والحنين إلى استعادتها كاملة (كما في مرحلة ما قبل الدوحة) يغذّي رغبات العديدين ومشاعرهم. وقد جرى التعبير عن ذلك بطريقة صارخة ومبتذلة في آن واحد، في الزيارة الأخيرة لمساعد وزيرة الخارجية بالوكالة، السفير السابق، في لبنان، جيفري فيلتمان.
ونتوقف هنا لنشير إلى خلل لا يجوز استمراره، بشأن العلاقات السورية ـ اللبنانية. فهذه العلاقات لا ينبغي أن تكون مرتهنة بالكامل، للصراعات العربية ـ العربية، أو للصراعات السورية ـ الدولية (الأميركية خصوصاً)، بل يجب أن تمتلك دينامية خاصة بها. وهذه الدينامية لا تقوم إلا بجهد مشترك من الطرفين اللبنانيين المتصارعين، من جهة، وبجهد من الطرف السوري نفسه، من جهة ثانية.
بالتأكيد لا شيء يستطيع منع التأثيرات الخارجية على العلاقة بين البلدين. بيد أن هذا التأثير لا ينبغي أن يكون إطلاقاً، العامل الوحيد أو الحاسم في تقرير مسارها ومصيرها!
ويتصل بذلك موضوع «العدو الإسرائيلي». فهذه العبارة التي تتردد بخجل لا تلبث أن تتراجع أو حتى تختفي في ثنايا خلل آخر، عندما يشير البرنامج الانتخابي لفريق 14 آذار مراراً وتكراراً، تلميحاً وتصريحاً، إلى أن مصدر الخطر هو في الداخل بالدرجة الأولى. أما ذلك الوافد من الخارج، فمصدره ليس إسرائيل، بل سوريا نفسها. تعبر عن ذلك عبارات مبثوثة وموزعة في معظم البنود. ووفق هذه الذهنية، التي يجري فيها، شكلياً، الحديث عن «حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية»، يسارع معدّو البرنامج إلى تبديد كل انطباع من شأنه إضفاء صفة جدية على هذا الخطر، عندما ينادون في البند الثاني الذي يليه بضرورة «أن لا تكون هناك أسلحة... غير أسلحة الدولة».
أما عناوين أخرى عن نوع «توفير الانسجام بين لبنان والمجتمع الدولي» فالمقصود منها حتماً، الانسجام مع موقف الأميركيين وأمثالهم ممن يعتبرون المقاومة إرهاباً ما دام سلاحها موجَّهاً ضد المحتل الصهيوني تحديداً!
وفي امتداد مقارنات استعلائية وشبه عنصرية كثيراً ما تفاخر بها، خصوصاً قائد «القوات اللبنانية» السيد سمير جعجع، يطالب بيان 14 آذار اللبنانيين بالاختيار أيضاً «بين الانحدار نحو هاوية التخلف أو الاستقرار وفرص العمل والازدهار».
أما الحديث الذي استُعيد من نص سابق وحتى من مناخ آخر، عن «ضرورة توحيد إنجازين أساسيين في تاريخ لبنان الحديث: إنجاز التحرير وإنجاز الاستقلال»، فهو حديث طيّب شرط العمل بموجبه فعلاً. هذا الشرط هو إبراز ما يؤدي إليه التحرير من دور لا غنى عنه في تحقيق الاستقلال، وكذلك، ما يتطلبه الاستقلال من تحرر من كل أشكال التبعية، لا من شكل وحيد منها دون سواه.
إلى ذلك، لا يتطلب «بناء وطن آمن ونهائي لجميع أبنائه... ودولة منيعة الجانب للجميع وفوق الجميع»، أيّ رؤية أو خيار إصلاحيّ. وهكذا يخلو برنامج النقاط الأربع عشرة من أي وعد أو تعهد بالسعي نحو الإصلاح الملموس، لا في النظام السياسي ولا في قانون الانتخاب.
كذلك أُحيلت كل مشاكل لبنان وأزماته الاقتصادية والاجتماعية: البطالة والهجرة والمديونية (الأعلى في العالم) المتفاقمة وغلاء الأسعار والنهب والفساد... على «مؤتمر للحوار الاقتصادي والاجتماعي يضع ميثاقاً للعيش الكريم موازياً لميثاق العيش المشترك»: أنعمْ وأكرمْ! إذا كانت المعالجات الاقتصادية ستكون على نسق المعالجات السياسية!
ثمة بالفعل خياران، بل ثمة أكثر من خيارين: فهل ترتفع المعارضة بالمقابل، إلى مستوى الدمج المنشود بين إنجازي التحرير والاستقلال مضافاً إليهما هواجس وعناوين التنمية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية.؟
* كاتب وسياسي لبناني