يعلن البريطانيان جورج ميللر وكاتارين ريفز في مقدمة كتابهما «الدليل الخام للغذاء» أنهما قد فقدا الشهية وهما يعدّانه! فرغم أن أبحاثهما قد طالت أشهى المأكولات، إلا أنها كشفت الفضائح الكامنة وراء كل طبق نشتهيه
إعداد: رنا حايك
بينما يعتاد المستهلك على أنماط غذائية، تدخل العوامل الاجتماعية والثقافية والمناخية المحلية في تحديدها، يخفى عليه أحياناً أنه يتلقف أنظمة غذائية معولمة تفرض الشركات العملاقة عليه اعتمادها، بما يخدم مصالحها المالية والصناعية على حساب الكثير من الاعتبارات الأخلاقية والبيئية والصحية.
هذا هو الاستنتاج الذي وصل إليه الكاتبان البريطانيان جورج ميللر وكاتارين ريفز وهما يقودان الأبحاث اللازمة لإعداد كتابهما «الدليل الخام للغذاء». فقد رصد الباحثان الآثار المدمرة لأنظمة التصنيع الغذائي على صحة البشر، وأصول الرأفة بالحيوانات، والتبدّل المناخي ومصادر الكوكب عامة، بينما نوّها ببعض التجارب الفردية لمزارعين لا يزالون يعتمدون الطرق التقليدية والصحية في إنتاج الغذاء.
كما اكتشف الكاتبان أن جهلاً مطبقاً يسيطر على معظم المستهلكين في كل ما يتعلق بأمور الغذاء، لأنهم يعتمدون على المعلومات المضللة المذكورة على أغلفة المنتج.
فهل يعلم المستهلك مثلاً أن وراء كل قضمة من الشوكولاتة الشهية التي يتناولها ويذوب مع ذوبانها في فمه، يُستعبد أكثر من 100 ألف طفل أفريقي في حقول العمل ويتعرضون لشتى أنواع المبيدات السامة المستخدمة في زراعة الكاكاو وإنتاجه؟
وهل يعلم أيضاً أن 98% من لحم البط المطروح في الأسواق هو نتاج تصنيع مكثّف للحوم حيوان يعذّب قبل أن يذبح، إذ إنه يزجّ بالآلاف في مساحات ضيقة، ويمنع من السباحة، بينما لا يرى ضوء النهار سوى وهو مساق للذبح؟ والأخطر: هل يعي المستهلكون أن معظم ما يذكر على أغلفة المنتج من ماركات توحي بأنها تراعي حقوق الحيوان قبل ذبحه يكون كاذباً في أغلب الأحيان، ما يستوجب التدقيق جدياً في الأنواع قبل تناولها من ثلاجات السوبر ماركت؟
وبعيداً عن إلقاء المسؤولية، كما تدعو العادة النمطية السائدة، على السوبر ماركت، من منطلق أنها تمثّل التجسيد الواضح لسلوك المجتمع الاستهلاكي، يجب الالتفات إلى الكواليس، حيث تتحكم شركات عابرة للقارات بإرساء قواعد الربط في السلسلة الغذائية. «كارجيل» مثلاً، هي أضخم هذه الشركات، فهي تسيطر على نصف نسبة تجارة الحبوب العالمية تقريباً، بينما تمتد أياديها إلى كل مظهر من مظاهر النظام الغذائي العالمي، من اللحوم والسكّر حتى الأسمدة الحيوانية والمخصبات الزراعية. واقع يدعو للقلق، إذ إنه يضع بين يدي شركة واحدة سلطة احتكارية على كل ما نأكل حالياً، وعلى إمداداتنا المستقبلية من الغذاء، أينما كنا.
وقلق يتفاقم في ظل حضارة غذائية قوامها «السندويشات»، فرضها سوق العمل الذي أصبح يلتهم معظم ساعات اليوم لدى المستهلكين في جميع أنحاء العالم. معظم الخبز المعدّ لتحضير هذه السندويشات، والذي يباع في أكياس مغلقة على أرفف المخازن الكبرى، ويرتفع قطره بينما يظل طرياً كالإسفنج، يحتوي على كميات عالية من الدهون والمستحلبات والمحلّيات الصناعية والمواد الحافظة.
يتهافت المستهلكون على شراء هذه الأكياس الجاهزة من السوبر ماركت توفيراً لوقت التسوق، ويدفعون ثمنها غالياً، بينما يستبعدون غالباً أن يقصدوا المخبز يومياً لشراء خبز طازج أرخص ثمناً وتقتصر مكوناته على الدقيق والماء والخميرة.
إلا أن الحل ليس في الاعتماد الحصري على المنتجات الطازجة الموسمية أو المصنوعة محلياً، بهدف التقليل من نسب انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي يتسبب بها نقل البضائع جواً وبحراً وبراً من بلد إلى آخر. فعلى العكس من ذلك، تمنح قواعد التجارة العادلة متنفساً معيشياً لائقاً لصغار المزارعين والمنتجين في البلدان الفقيرة من خلال تصريف منتجاتهم. إلا أن الخطر يكمن في ارتفاع الطلب بشكل مبالغ به، على السلع المستوردة. وتمثّل اللحوم المثال الأسطع على ذلك: فلتناول اللحوم بكثافة وتكراراً وبغير اعتدال تبعات أكثر خطورة على البيئة من تبعات نقله، إذ يؤدي ارتفاع الطلب عليه إلى استبدال الغابات التي يتنفس منها الكوكب بمراع شاسعة ضرورية لتربية المزيد من المواشي بهدف تلبية الطلب العالمي المتزايد.
الأمر ذاته ينسحب على الأسماك. إذ قدّرت منظمة الغذاء العالمية (الفاو)، أنه قد استُنزف نصف المخزون العالمي من الأسماك، بينما تطال اليوم عمليات الصيد التي تتخطى حدود مستويات الاستدامة المسموح بها ربع الكمية الباقية.
ليست هذه الوقائع سوى دعوة لمزيد من التأمل والتدقيق في ما نستهلكه قبل التهافت على استهلاكه كما تملي علينا عشوائية نظام التصنيع الغذائي الذي لا يخدم سوى مصالح تجّاره المالية.