أحمد الزعتري
خلال زيارتها لابنتها في عمان (2006)، فجّرت جماعات متطرفة قبّة مرقد الإمام العسكري في سامراء. اشتعلت الفتنة، واتصل بها جيرانها في العامريّة، يخبرونها بأنّ الجيش الأميركي اقتحم منزلها ودمّر محتوياته بحجة البحث عن سلاح. منذ ذلك الوقت لم تعد لطفية الدليمي إلى بغداد.
جاءت المرأة الستينية إلى مقهى «الفاروقي» في عمان بكامل جمالها وحزنها. أول ما نبست به كان حشرجة. حزن المنفي يغلبها، فتقول كمن اكتشف حقيقة للتو: «أعيش في الفنادق، ولا أعلم أين أذهب. لكنّني قويّة». لا شك في أنّها كذلك، من يعتني بالحديقة ويستمع إلى كونشيرتو مندلسون، على وقع أصوات الانفجارات ونحيب من «قطّعت الجماعات الأصولية سيقانهم لأنهم يرتدون سروايل السباحة»، وعويل أمهات وجدن رؤوس بناتهن على الرصيف، لا بد من أن يكون قويّاً.
كان منزلها الذي سكنته مع رفيق عمرها عالم الاجتماع الراحل كامل العزاوي متحفاً مصغّراً. جدرانه معرض لوحات، وزواياه ملجأ لمنحوتات أبرز الفنانين العراقيين، ومكتبته تحوي الكتب والمخطوطات النادرة. بيتٌ طالب مثقفون ببسط الحماية عليه، لما يحويه من ثروة. واليوم يسكنه الأصدقاء لحمايته ممن يريدونه نُزُلاً لعوائل «المجاهدين»: هذا ليس إلا مثالاً بسيطاً على كيفيّة «تعاون الاحتلال مع القِوى الأصولية على تدمير الثقافة والمثقفين».
كان يمكن ألا تحمل هذه المرأة وجعها وتجوب المنافي، لو لم تقع مبكّراً في مصيدة الكتابة. كان والدها ماركسيّاً يحتفظ بالكتب التي بدّلت حياتها للأبد. في بيت العائلة في ديالى، بدأت لطفية مشوارها المعرفي من أقصى اليسار، إلى الوجودية فالتراث العربي. الانهماك بالمعرفة ورفض الثوابت، أخرجاها من الأدلجة والتمترس وراء منهج فكري معيّن، إلى مواجهة التطرف الفكري بأشكاله كلّها. هذا ما جعل واقع المرأة في العراق أولويتها، فانخرطت في «الاتحاد النسائي العراقي»، وأسست «منتدى المرأة الثقافي»، وصولاً إلى تأسيس «مركز شبعاد» لدراسات حرية المرأة (2003). وشبعاد هي الملكة السومريّة التي دفن معها خدمها ووصيفاتها.
وفي «مركز شبعاد» أقيمت مسابقات لاستقطاب دراسات عن وضع المرأة في العراق، تكتبها العراقيات أنفسهن، عن العنف ضدّ المرأة وحريتها وحقوقها في ظلّ الاحتلال والأصولية، إضافة إلى مسابقة لاكتشاف كاتبات قصة قصيرة. وفوجئت الدليمي بكميات الدراسات والنصوص التي لم تحمل بالضرورة توقيع باحثات متمرّسات. من جهة ثانية، وقفت ضد تواطؤ البرلمانيات المجللات بالسواد على حقوق النساء، عبر تنظيمهنّ تظاهرات تحتج على قوانين تنصف المرأة، وتسعى إلى إلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي صدر بعد إعلان الجمهورية.
العراق بات جحيماً أرضياً، فهل تخلد الدليمي إلى منزلها وتكفّ عن مغامراتها الثقافية؟ الجواب هو: لا. بدعم من «جمعية الفنون البصريّة»، أصدرت صاحبة «عالم النساء الوحيدات»، مجلة «هلا» الثقافية عام 2005 وترأست تحريرها: «تفكك المجتمع العراقي بهذا الشكل دفعنا إلى البحث في جماليات الأمكنة التي تجمع من خلالها عناصر المجتمع». لكنّ المجلة توقفت عند العدد الخامس، عندما لم تعد الدليمي من زيارتها الأخيرة إلى عمان في 2006.
في مذكّراتها «ساعتان ما بعد التقويم»، وصفت الدليمي امرأةً «تجازف كل برهة وتراوغ موتها»، وحيدة مشغولة بمشاريعها الثقافية تنتظر دورها لتشتري بنزيناً من السوق السوداء تحت المطر، وبين الحين والآخر تتلقى اتصالات تهددها بقطع الرأس إن استمرّت بالكتابة والعمل. تصطدم بملتحٍ أمام منزلها يهدّدها: «غطي شعرك وإلا سترنا عارك بالموت». في غمرة ذلك، تسعدها القطط وهي تتسلل إلى بيتها من شبّاك حطمه الانفجار، تطعمها الحليب، تُدندن أغنية عراقية قديمة، وتعتني بأزهار حديقتها الخارجيّة كما لو كانت تنمو في شرفة باريسيّة.
ذهبت الدليمي فعلاً إلى باريس بطلب لجوء، وبعدما أمضت تسعة أشهر في دار الصحافيين، شاطرت مهاجراً أفريقياً وآخر لاتينياً غرفة في حيّ سارسيل الفقير. هناك، تعرضت للضرب والسرقة وكادت تلقى حتفها. «لم أتلقّ معاملة خاصة لأنني لم أرضَ رشوة موظف في بلديّة باريس، ولم أشتم الإسلام». تسليمة نسرين مثلاً، تقول الدليمي، «منحت لقب مواطنة شرف، وأُسكنت في منزل كبير في أرقى ضواحي باريس، لأنها شتمت الإسلام في روايتها «العار»». وتضيف: «باريس أجمل مدينة في الدنيا، لكنني هناك مجّرد ذرة رمل، شخص يمكن أن أموت في الشارع من دون أن يعرفني أحد»، لهذا غادرتها.
تنظر إلى الدليمي وقد أنهكتها الحياة، فتسأل: ترى كيف كانت قبل أن نراها هكذا؟ في سيرتها أكثر من 22 مؤلفاً في القصة القصيرة والرواية، فضلاً عن دراساتها عن المرأة العراقيّة على مرّ التاريخ، وكتاباتها في الموسيقى، ونصوص مسرحيّة أبرزها «الليالي السومرية» ـــــ وهي قراءة مغايرة لملحمة جلجامش ـــــ إضافة إلى أفلام وثائقيّة ومسلسلات تلفزيونيّة، وترجمات للياباني ياسوناري كاواباتا، والهنديّة أنيتا ديساي، والأميركية أناييس نن.
أمّا أشهر روايات الدليمي على الإطلاق فهي «ضحكة اليورانيوم» (2001) وهي قصة 13 طفلاً قضوا في ملجأ العامرية. توثق الرواية أحلام أولئك الأطفال، ومستقبلهم لو لم يقتلوا: «إنه نصٌ رؤيوي لجأت فيه إلى التراث. هؤلاء أطفال ولدوا في الحرب مع إيران وقتلوا في حرب الخليج الثانية».
في تلك السنوات، حضرت الدليمي في المشهد الثقافي العراقي بقوة. أدهشت الوسط آنذاك باستعمالها تقنيات سردية حديثة من «الفلاش باك» والمونولوج الداخلي والريبورتاج. المبدعون الشباب لقبوها بـ«أمنا الكونيّة»، إذ دعمتهم وتبادلت التجارب معهم. هذا الاهتمام تأتّى من شعور الدليمي بأنّ جيلها كان أكثر حظاً من هؤلاء الشباب، إذ نشأ «في محيط محتدم بالتصورات السياسية وأحلام اليوتوبيا الأرضيّة، ووجود فسحات من الحرية كنا نعبر فيها عن أنفسنا». وفي عهد صدام حسين، اتكأت الدليمي على النظام، بحكم عملها في «الاتحاد النسائي العراقي»، رغم انتقادها لما فعله بالمثقفين لاحقاً في الصحف الأجنبية.
تعمل الآن كاتبة «في المغلق والمفتوح» على «كتاب الشاي والحب» الذي سيصدر عن «الدائرة الثقافية» في إمارة الشارقة، والذي تسرد فيه طقوس الشاي المختلفة، وتؤول جلسات الشاي بالميثولوجيا. يتضّمن الكتاب أيضاً «تقويم أزاهير الروح»، إذ تنسب الدليمي لكلّ شهرٍ زهرته التي تناسب أجواءه، كما تعمل على إنجاز كتابين آخرين هما «الحرب والمنفى» و«رحلة إنانا إلى بلداك».
نحاول في النهاية أن نكسر برد الحزن الثقيل الذي اعترى جميع من ارتاد المقهى ذلك المساء. نسألها عن الزهرة التي تناسب عمان، تطرق لثوانٍ وتجيب بشغف «عبّاد الشمس، لأنها متفائلة وجميلة وطيّعة، ولأنها تتجه صوب النور أينما ذهبت». «الأمّ الكونيّة» لا تعرف أنّها في تلك اللحظة كانت تصف نفسها.


5 تواريخ

1970
أصدرت أول مجموعة قصصيّة عن مطبعة الجاحظ في شارع المتنبّي بعنوان «ممر إلى أحزان الرجال»

1994
فازت بجائزة القصة القصيرة في العراق عن كتاب «موسيقى صوفيّة»

2004
أسست «مركز شبعاد» لدراسات حرية المرأة في بغداد

2006
تركت بغداد ورفضت دول عربيّة عدة منحها الإقامة، وفي فرنسا خلال العام التالي لم تكن أوفر حظّاً، إذ تعرّضت لاعتداء من عصابات في الضواحي كاد يودي بحياتها

2009
تصدر قريباً «كتاب الشاي والحب»، وربما تتابع رحلتها بين المنافي، بعدما رفضت السلطات الأردنيّة منحها الإقامة