مصطفى بسيوني
مثقّف من طراز رفيع لن تجد مثله كثيراً في الواقع المصري، وباحث متعمّق في قضايا مجتمعه، يعرف كيف يضع يده على أوجاع الوطن. وفوق كل ذلك، هو مناضل يساري صعب المراس، رغم هدوئه الظاهر. إنّه «الدكتور» كما سمّاه زملاؤه وأصدقاؤه وتلاميذه.
في منزله في حي العجوزة في الجيزة، لم تقلّل ظروفه الصحية من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة. أمام جدران المنزل التي تحولت إلى أرفف حملت الفكر والفن والثقافة، تدرك على الفور أنّ هدوء مضيفك ليس سوى رزانة العالم وصبر المعلّم.
بداية علاقة محمد السيّد سعيد بالعمل السياسي كانت في 1968 في جامعة القاهرة، حيث بدأ قياديّاً في صفوف الحركة الطلابية التي كانت تحاول النهوض حينها من حرب 1967. يتذكّر «الدكتور» تلك الفترة: «بدأنا مجموعة صغيرة في محاولة لبعث الحركة الطلابية بعد الهزيمة، وصعدت الحركة بالفعل خلال 1968. لكنّ عبد الناصر قضى عليها وأطلق ساعتها شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». فإذا بالحركة تتراجع لتصعد مجدداً عام 1971 مع انحسار قبضة الأمن نسبياً». وكقائد طلابي، دخل السجن لأوّل مرة عام 1972 بعد اعتقال قيادات الحركة الطلابية.
لكن التجربة الأكثر قسوة في السجن كانت عام 1989 عندما سُجن مع عمّال الحديد والصلب بسبب تضامنه معهم. وهي التجربة التي يتذكرها قائلاً: «كانت تجربة بشعة. كنّا عدداً كبيراً من المثقفين والمناضلين. تعرضنا للتعذيب والسحل والإهانة وكل أنواع الضغوط. بعضنا أشرف على الموت تحت وطأة التعذيب». لكن الرجل لا يرتدع، وهذه التجربة «البشعة» لن تمنعه من الظهور بعد عشرة أعوام في إضراب موظفي الضرائب العقارية.
لا يتكرر كثيراً نموذج محمد السيد سعيد المثقّف الذي ترك البرج العاجي ليرتبط بنضالات الجماهير مباشرةً ويتفاعل معها ويدفع نصيبه من كلفتها ولا يتوقف عند تحليل الحركة ونصحها. كان طوال رحلته مناضلاً يسارياً، لكنّه تميز داخل صفوف اليسار بتلك المرونة التي اشتهر بها: «كنت الأكثر ليبراليةً بين اليساريين والأكثر يسارية بين الليبراليين. حاولت فكرياً المضافرة بين الليبرالية السياسية والماركسية الاجتماعية. لم أقبل أبداً الاتحاد السوفياتي والصين والأنظمة الشمولية كنماذج اشتراكية، ورفضت تقمّص الرفاق لشخصية لينين وغيره. كنت أبحث عن اشتراكية ذات وجه إنساني».
محمد السيّد سعيد المناضل اليساري كان من أهم ناقدي اليسار من موقعه المهموم بقضايا الحركة ومستقبلها، ورفضه روح الانغلاق والدوغمائية والميل المفرط لأطر الأيدولوجية، ونقده للتبعية الفكرية للنموذج السوفياتي. لم يكن يوماً من الذين يتسامحون مع أخطاء الحركة، أو يجدون لها المبرّرات والذرائع. رغم هذا النقد، فإنّه لم يفقد نظرته المتفائلة بمستقبل اليسار: «لقد شهد اليسار المصري والعربي انهياراً مريعاً في الربع قرن الأخير، وحتى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. لكننا نشهد الآن صعوداً رغم كونه بطيئاً، إلا أنّه في بيئة صحية. لقد تراجعت نظريات الحزب السري، وتراجع معها النفوذ الفردي في الحركة، والنضال اليساري أصبح أكثر انفتاحاً على الحركات الاجتماعية... وهو ما يمثل البيئة الأفضل لنمو أي حركة. ورغم استمرار تشرذم اليسار، إلا أنّني لست من أنصار الوحدة غير المشروطة أو الوحدة للوحدة. كل وحدة يجب أن تمر عبر فرز كفاحي وفكري لضمان صلابتها واستمرارها، والملاحظ الآن بدايات تفاعل صحي لحركة اليسار المصري والعربي مع الحركات العالمية، لا علاقة تبعية كالتي قامت في أيّامنا مع الاتحاد السوفياتي. واليسار المصري والعربي عموماً هو جزء من اليسار العالمي رغم خصوصيّته».
لقد جاء اهتمام محمد السيد سعيد بالعمل الحقوقي ضمن اتجاه عام لحركة اليسار نحو بناء منظمات المجتمع المدني. كان من مؤسسي المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في الثمانينيات، ومركز القاهرة لحقوق الإنسان في التسعينيات. ولكونه من روّاد الحركة الحقوقية في مصر، لم يمنعه ذلك من تقويمها موضوعياً، بما لها وما عليها: «المنظمات الحقوقية قدمت خدماتها لأعداد ضخمة، واستطاعت أن تثبّت أجندة حقوق الإنسان في الوعي المصري... وكان لها الفضل في تنمية ثقافة حقوق الإنسان. لكن يجب أن نرى عيوبها أيضاً، مثل التمويل الأجنبي. وهو ما تسبّب في إفساد بعض ناشطيها. بالطبع هناك شرفاء أيضاً، لكن ثمّة مَن حوّلوا الحركة الحقوقية إلى «بيزنس». للأسف، فإنّ الحركة الحقوقية نمت في أرض بور، لا نقابات ولا حركة نسوية أو اجتماعية تذكر، وهو ما حرمها من فرص التمويل الذاتي إلى جانب صبغها بالطابع النخبوي وهذا بالطبع بعض نتاج الاستبداد السياسي».
الموضوعية والعمق هما بعض ما يميّز محمد السيد سعيد، ولعلّ ارتباطه بمركز «الأهرام للدراسات الاستراتيجية» كباحث جاد ومتميز، رسّخ تلك الميزات. «المركز كان مؤثراً في حياتي بشدة. أؤمن بأنّ العمل هو أساس كل تطور في الشخصية. وقد جاء ارتباطي بالمركز خلال فترة حرجة في منتصف السبعينيات التي كانت مرحلة التحول الكبرى في مصر. وللعلم، فإنّ المركز هو المكان الوحيد في مصر الذي عارض كامب ديفيد. وقد تربّيتُ في المركز وسط عمالقة أمثال طارق البشري وأبو سيف يوسف ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود الذي تأثرت به كثيراً، رغم انتمائي إلى مدرسة فكرية مختلفة. كان مركز اختمار فكري جبّاراً يعكس رحلة مصر الفكرية من عهد عبد الناصر حتى الآن، مع الانقسامات العديدة التي شهدها كالخلاف على سياسات الخصخصة التي انقسم المركز فيها إلى جناحين، وكنت أنا طبعاً مع الطرف المناهض لليبرالية الجديدة».
حاول السيد سعيد أن يضع تميزه الأكاديمي من البداية في خدمة المجتمع. أطروحته لنيل الدكتوراه كانت دراسة مقارنة لسبع تجارب للتطور في أفريقيا يقول عنها «أردتُ أن أرى من خلال تلك الدراسة بزوغ الرأسمالية من المجتمعات البدائية».
مكانة محمد السيد سعيد الرفيعة باحثاً، ومنصبه نائب رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في «الأهرام»، لم يجعلاه يتردد في خوض مغامرة تولّي رئاسة تحرير جريدة اليسار الجديدة «البديل» مع فريق من الشباب. صعوبات كثيرة كانت تواجه التجربة: «البديل كانت مغامرة، الإمكانات المالية قليلة، والتجربة كلها لم تكن مضمونة. لكنّ إحساسي بالواجب دفعني إلى تلك المغامرة. وقد اعتبرت حياتي كلها عملاً عاماً، وأردت أن يكون آخر ما أقدمه للعمل العام هو إعادة إحياء فكرة اليسار وتجديدها وتقديمها للأجيال الشابة». في هدوء شديد وبسبب ظروفه الصحية السيئة، انسحب محمد السيد سعيد من رئاسة تحرير «البديل»، تاركاً المهمة للشباب ومقدماً نموذجاً فريداً للمثقفين المصريين في إعطاء الفرصة للأجيال الصاعدة. إنه «الدكتور» كما عرفناه ونعرفه، باحثاً ومناضلاً يتفق معه بعضهم ويختلف معه البعض الآخر... لكنّ الكلّ يُجمع على أنّ أفعاله ومواقفه دائماً مساوية لأقواله، وأنّ الإنسان لديه هو دائماً فوق أي اعتبار آخر.


5 تواريخ

1950
الولادة في بور سعيد (مصر)

1972
التخرّج من كلية السياسة والاقتصاد. وبعدها بثلاث سنوات التحق بـ«مركز الدراسات الاستراتيجية» في الأهرام

1983
نال الدكتوراه من جامعة «نورث كارولينا» وكان موضوعها دراسة مقارنة لسبع تجارب للتطوّر في أفريقيا

1989
اعتقل مع عمّال الحديد والصلب. وكانت تجربة قاسية عرف خلالها التعذيب

2008
ترك رئاسة تحرير جريدة «البديل» لأسباب صحيّة