وائل عبد الفتاحالعالم العربي معزول. كأنه وحش جريح يطلق صيحات الألم من خلف قفص. مثل «مرجان» أسد كابول الذي أصيب بالعمى إثر حروب أفغانستان، وظلّ مقيماً في حديقة حيوان شبه مهجورة يجرجر أقدامه كل يوم ويطلق زئيره المبحوح كلّما شمّ رائحة يعرفها. مات أسد كابول أثناء زبارة بعثة إنقاذه. نهاية حزينة أثارت الدموع.
وإن كان ذلك طبيعياً في عالم الحيوان، فإنّه في عالم السياسة يثير القلق من مستقبل تتحكّم فيه ضربات وحش جريح لجدران القفص. السياسة المتاحة الوحيدة هي صرخات وتحرّكات أقرب إلى هستيريا منها إلى قواعد التكتيك والاستراتيجيا. هستيريا البقاء في القفص بدلاً من الخروج وملاقاة مصير أسد كابول الأعمى.
تبدو مصر مطمئنّة باستمرار اتفاقاتها وتحالفاتها مع أميركا وإسرائيل. تدافع فقط عن «كرامة» رئيسها الجريحة من تصريحات ليبرمان الذي حفر برعونته وحماقاته طريقاً لمقعد في تركيبة السلطة الإسرائيلية.
هو نزوع إلى فاشية جديدة في إسرائيل والعالم. تجمع حولها الطبقات الدنيا من المجتمع الإسرائيلي في لحظة أزمة. تتحوّل فيه إسرائيل إلى بيت كبير... والسياسيون إلى حراس يحمون البيت من غزوات الهمج.
ليبرمان كان رسالة من الداخل إلى الخارج. رسالة سياسية لا عسكرية. غطاء لعملية عسكرية أخرى ضد إيران على الأرجح. والأهمّ أنها مشروع «حماية» في لحظة اختلال توازن بين تفكك مجتمع «إسرائيل النقية» الأوّلي وقوة عسكرية متضخّمة.
ليبرمان مشروع فاشية الخلل الإسرائيلي بينما موقف مبارك من ليبرمان شخصي ينتهي كما قالت صحف إسرائيلية بالاعتذار. مجرّد نظام يبحث عن هيبته.
ارتبطت خطوات الحفاظ على الهيبة بتحويل إدارة الملف مع ليبرمان من الدبلوماسية التقليدية إلى الاستخبارات. اختيار ليس جديداً لكنه يحمل معنى عاطفياً أن النظام العجوز يستدعي قوة الردع المجربة لمنفلتي اللسان وأصحاب الخطابات الجديدة.
دبلوماسية الاستخبارات في مواجهة دبلوماسية الفاشية الجديدة. أمنٌ في مقابل أفكار وعقيدة ومشروع تحالفات تثبّت علاقات إسرائيل بالعالم.
لكنّ الحركة المصرية محاصرة. هدفها ترميم «الهيبة» واستدعاء «الوجه المقبول» لإدارة ملف شائك. هناك هدف آخر مخفي لكنّه أساسي وهو: إرضاء جمهور محبط يطالب بالعودة إلى مناخات تشرين ١٩٧٣.
هذه هي الحركة في القفص. بلا إرادة للتحرّر من شروط الأزمة والهزيمة. وعيٌ مثقل باستقطاب عنيف لا يريد الوصول إلى نقطة لقاء ذهبية تفتح أفقاً خارج ثنائية «النظام» و«التنظيم»... «المقاومة» و«الخيانة»... «الاعتدال» و«الممانعة». ثنائيات تذوب في الواقع العملي لكنّها على مستوى الخطابات الحارقة تشتعل إلى درجة الصدام المباشر، كما حدث بين نظام مبارك وحزب الله.
موديل قديم من صدام كان في السابق يجري بين أنظمة تختلف على قيادة القاطرة العربية. مصر كانت رأس السهم. عندما يسير عبد الناصر إلى خط النار وعداء أميركا، كان خصومه هم «الرجعية العربية». وبينما سار السادات إلى طاولة المفاوضات تغيّر الخصوم وأصبحوا «الصمود والتصدّي».
في الحالتين تفكّكت الخصومة بعد سنوات منهكة للطرفين ومستنزفة للقوة المضافة بين دول العالم العربي، لأنه في الحالتين كان هناك مقياس متخيّل لأفق الحركة.
هذا المقياس يجعل من حزب الله عدواً لمصر في لحظة تبحث فيها عن دور في مواجهة «العدو الإيراني»... كان من الممكن تصحيح «الأخطاء» في التعامل مع حساسية الدولة في مصر من اختراق سيادتها. حساسية ولّدتها اتفاقيات كامب ديفيد والتباساتها بشأن أمن الحدود المصرية. جرح نائم يصحو مع حماس المقاومة، كما حدث عندما كسر عنصر من حماس الحدود أو عندما حصل حزب الله على ضوء أخضر ما لتهريب السلاح... سرعان ما تغيّرت الدنيا عندما انسحب الضوء وبدأت العداوة.
من هنا لم تكن حركة مصر باتجاه استغلال فجوات إسرائيل التي يعبّر اختيارها ليبرمان عن «مشروع سياسي» يبلور الذعر من نهاية «إسرائيل اليهودية».
كان يمكن أن تكون الحركة أكثر حرية وشباباً... وخارج القفص. هناك أزمة تقصّي أميركا عن القائد المتفرّد بالعالم، وتفتح الطرق أمام قوى جديدة مثل الصين. لكنّ الأنظمة التي تعتمد حكمتها على الخبرة والعمر الطويل أكثر من الفعالية السياسية أسيرة ما تعوّدته من تحالفات قديمة.
وهذا سر الضربات العشوائية من خلف القفص. ضربات لا تعني بالنسبة إلى كل الأطراف الوقوف عند حدود الاستقطاب. تبادل النيران البارد. إغراق العالم العربي بوابل من اتهامات وشكوك ومؤامرات تجعله حديقة أسود عمياء.