شهدت بيروت أمس نشاطين رئيسيين إحياءً لذكرى الحرب الأهلية، انقسما بين ساحة الشهداء صباحاً برعاية رسمية، ومنطقة المتحف بعد الظهر برعاية إعلامية. القاسم المشترك بين النشاطين كان الأطفال والشباب المتطوّعين في حملة «فرح العطاء» وتجمع «وحدتنا خلاصنا»، إضافة إلى الكلمات التي شدّدت، في المكانين، على المطالبة بحقوق الضحايا وكشف الحقائق سبيلاً لتجاوز الماضي ومنع تكراره
مهى زراقط
في ذاكرة اللبنانيين المرتبطة بالحرب، لا فرق كبيراً بين ساحة الشهداء ومنطقة المتحف. للمكانَيْن الرمزية نفسها: خط تماس يفصل بين بيروتين، قتل وخطف ودمار.
اختلف الأمر بعد الحرب. وُلدت شركة «سوليدير» لإعادة إعمار وسط بيروت، في وقت كانت فيه الحكومة اللبنانية تعقد جلساتها في مقرّ مجلس الوزراء في المتحف. عاماً بعد عام، وعلى وقع ورش إعادة الإعمار القائمة في وسط المدينة، كان أهالي الضحايا يعتصمون عند أدراج المتحف الوطني بعدما ألّفوا لجنة للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائهم المخطوفين والمفقودين.
اتسعت الهوة بين المكانين بعدما فقدا الرمزية ذاتها. في وسط المدينة، إعادة إعمار مستمرة رغم تعرّضها لنقد قاس ممن رأوا فيها إعماراً للحجر قبل البشر. وفي المتحف ساحة للمطالبة بحقوق الضحايا وبجعل 13 نيسان يوماً للذاكرة الوطنية.
لم تنجح الحركة السياحية التي شهدها وسط المدينة في إرساء شعور بالمصالحة مع مكان محا جزءاً من ذاكرة كثيرين لم يستطيعوا النسيان. وبقيت تلك المساحة الشاسعة في ساحة الشهداء متروكة للسيارات العابرة فيها حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. عندها استطاع هذا المكان أن يحتضن فئة كبيرة من اللبنانيين، وأن يستعيد إلى حد ما رمزية تجعل الوسط جديراً بحمل اسمه.
أمس، لم يكن ممكناً العبور بين المتحف وساحة الشهداء من دون هذا الاستعراض السريع لرمزية المكانين، وإجراء هذه المقارنة التي عزّزتها أيضاً طبيعة الحضور المشارك في إحياء مناسبة واحدة: ذكرى الحرب الأهلية.
في المكان الأول، ساحة الشهداء، رصَّت جمعية «ذاكرة للغد» كراسي بلاستيكية بيضاء خلف كراس جلدية لرسميين تقدّمهم ممثل رئيس الجمهورية، الوزير زياد بارود، وشخصيات سياسية كان أبرزها السفيرة الأميركية ميشال سيسون، وانضم إليهم في ختام اللقاء، متطوّعون في جمعية «فرح العطاء» وجمعية «وحدتنا خلاصنا».
في المكان الثاني، المتحف، وحّدت الكراسي البلاستيكية الحضور وإن جلس في المقدمة رجال دين يمثلون مختلف الطوائف اللبنانية. لكن النشاط الذي دعا إليه كلّ من «فرح العطاء» وتجمّع «وحدتنا خلاصنا» نجح في استقطاب أهالٍ خطفت منهم الحرب أبناءهم وأشقاءهم، من خلال المشاركة الفاعلة للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين. ونجحت وسائل الإعلام التي نقلت الحدث مباشرة على الهواء في تعويض الغياب الرسمي.
هذا في الشكل. أما في المضمون، فلا خلاف. في المكانين، كان ضحايا الحرب الحاضر الأبرز. بل قد يكونون حضروا أكثر في ساحة الشهداء من خلال الكلمات الثلاث التي ألقيت (مهى يحيى، زياد بارود وأمل مكارم)، للتعويض ربما عن غياب (أو مقاطعة) ممثلين عن قضيتهم، ما قد يدفع إلى الاستنتاج أن الشكل هو ما سبّب الخلاف بين جمعيات لطالما طالبت بالأمر نفسه.
«هنا في وسط العاصمة بيروت سيقام نصب وطني لتكريم ذكرى ضحايا الحرب التي اندلعت في لبنان في 13 نيسان 1975. أوقعت هذه الحرب أكثر من 200 ألف قتيل و17 ألف مفقود و400 ألف جريح». ارتفعت هذه الجملة، بلغات ثلاث، على لافتة كبيرة في المكان الذي قدّمته شركة «سوليدير» لإقامة النصب، وكتب تحتها باللون الأحمر وبخط عريض: تذكروا.
وأكدت رئيسة جمعية «ذاكرة للغد» أمل مكارم على مضمون هذه الدعوة في الكلمة التي ألقتها، فرأت أن «الإعلان عن تخصيص هذا المكان لتشييد نصب تذكاري هو بمثابة إعلان فسحة لتفعيل ذاكرة الحرب المعطلة لأنه لا يمكن طيّ هذه الصفحة قبل تحقيق حد أدنى مقبول من العدالة تجاه الضحايا». وتابعت: «لا يمكن طيّ صفحة الماضي من دون معالجة قضية المفقودين بمنتهى الجدية والمسؤولية. وهذه المعالجة تتطلب انصباب جهود جميع اللبنانيين على مساعدتهم للتوصل إلى حقيقة مصيرهم. هذه الحقيقة هي أقلّ ما على زعماء الحرب تقديمه من تعويض لذوي المفقودين».
وناشدت مكارم رئيس الدولة أن يجعل هذه القضية «من أولويات عمل أول جلسة لمجلس الوزراء بعد الانتخابات وتكليف لجنة حقيقة ومصالحة مؤلّفة من قضاة وشخصيات مدنية لا غبار على أخلاقياتهم يضعون مصلحة الوطن فوق أي اعتبار، على أن تعالج هذه اللجنة القضية بمراعاة استراتيجية اللجان الثلاث لأهالي المفقودين التي تطالب بنبش المقابر الجماعية». كما أوضحت أن النصب سينفذ وفق مسابقة بين اللبنانيين ووفق دفتر شروط يعتمد تصميماً يسمح بإدراج أسماء الضحايا، علماً بأن «إحصاء تلك الأسماء وتصميم النصب والبدء بالعمل على الأرض عملية ستدوم ربما سنوات نأمل أن نكون قد توصلنا خلالها إلى الحقيقة عن كثير من المفقودين».
يرضي هذا الكلام رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين وداد حلواني لكنه لا يقنعها تماماً. تقول لـ«الأخبار» التي تلتقيها خلال إحياء النشاط في المتحف، إنها تابعت الاحتفال الصباحي في ساحة الشهداء، فتعزّزت اقتناعها بالمقاطعة. هي تعترض على الشكل، على الحضور الرسمي وعلى مشاركة السفيرة الأميركية. برأيها، لا يمكن البدء من النهاية، «النصب مطلب لنا لكننا نريد إنجازه بعد الوصول إلى الحقيقة: لن تطير سوليدير، ويمكننا أن نأخذ الأرض في أي وقت، لكن لا يجوز تسليم هذا الملف على طبق من فضة لمن يرغب».
قد يكون الوقت كفيلاً بحلّ هذه المشكلة بين اللجنتين. لكن يجب عدم الانتظار طويلاً فالوقت يمرّ بسرعة. وداد حلواني كانت تشارك في الاعتصام برفقة حفيدها نائل معلنة انضمام جيل ثالث إلى المطالبين بالحقيقة. كم جيلاً سيكبر بعد والجرح لا يزال مفتوحاً؟