محمد محسنفي لبنان لا تنتهي الحرب الأهلية إلا يوم ذكراها. فهي تعود فوراً بعد غروب شمس تلك الذكرى. أمام «وهرة» البوسطة الشهيرة، تصمت مدافع الكلام. عندها يخلع الجميع جلد حربه، وببشاشةٍ غير معهودة، إلا في الثالث عشر من نيسان، يلعن المقاتلون الأشدّاء زمناً كانت فيه جلودهم تلمع، كمعدة ضبعٍ جائع. أتعرفون؟ المشكلة في الضبع أنّه يعيش كثيراً، والأكيد، أنّ شكله يزداد بشاعةً كلّما ازداد عمره. لا تسيئوا فهمي، فالضباع لا تكتسب بشاعتها مع تقدم العمر، بل تربّيها «كل شبر بندر»، بعد أن تكون ملتحمة معها منذ الصغر.
الحرب لم تنته بعد، وصلاحيتها مستمرّة ما استمرّ التوريث، حتى لو كان الوريث شاباً مندفعاً، فالإرث لا يتجزأ.
لذلك، تبدو الأحاديث الكثيرة عن نهاية الحرب في لبنان، حيث يمثّل التوريث، عماد الحياة السياسية، مجرّد مزحة مازوشية لا تستعير من السلام والذكريات المؤلمة إلا اللفظ الناعم.
في لبنان، يلعق الناس قطرات الحرب بنهم شديد كأنّهم يتقنون هضم المرارة. وحدهم الأطفال مرتاحون من هذه الدوّامة. لا تصدّقوا أنّهم لا يعرفون شيئاً. عيونهم تلمع، فهم يعرفون أشكال الحروب، لكنّ المفارقة أنّهم لا يريدون شيئاً من سكاكرها.
عندما كنت طفلاً، عشت ثلاث سنواتٍ من الحرب الأهليّة. سمعت انفجاراتٍ كثيرة، ورأيت إطلاق نارٍ من حاجزٍ عسكري. حينها، استهزأت بالكبار. قلت لهم: «أبعدوا رصاص حواجزكم عن سيارة أبي، أريد أن يوصلني إلى بيت جدتي. هناك، سأرتدي حذائي الرياضي الممزّق، وألعب كرة القدم مع أولاد الجيران».
ثمّة أشخاص اعتبرهم هامشيين، يصرّون على رفض الحرب الأهليّة، دون أن يحاربوا مظاهرها الجديدة. لا تكفي المحاضرات والندوات، والنظارات السميكة جداً، ولا المقاهي والفايسبوك.
هل نسيتم؟ المحاربون يمقتون الحرب أيضاً. هم لا يستعدون للحرب إلا من أجل السلام. للتوضيح، أقصد الحروب الأهليّة، لا تلك التي تخاض للحفاظ على فلسطين. فهناك، للحرب طعم فرح يحمي الوطن من أنياب الضباع.