أنسي الحاجشتاء
أحفظُ كلَّ الإعجاب لشخص كشف لي في إحدى ليالي الشتاء عن خفايا شخصيّته.
ليس أمْلَك للنفس من الصدق غير صدقٍ يخاطب خصيصاً تلك النفس.
فمَن يأتمنك على مكنوناته يُكْرمك، ويعزف على أوتار نرجسيّتك ألحاناً أوّلها الانخطاف وآخرها الأسر في قفص السهر على الكنز. فمَن كنت تصنّفه في خانة وتحسب أنك تعرفه يأتيك فجأةً، في لحظة اعترافٍ هائل، ينفض في سمعك كنائنه ويخلع أقنعته، يجعلكَ أسيره وقتَ تظنّه بات أسيرك.
وهذا ما حصل معي تلك الليلة، تلك الحلقة الواصلة بين ليلة وضحاها، بل بين لحظة من الليلة ولحظة.
حجابٌ ارتفع عن وجهٍ كان قبل السفور ضباباً موّاجاً، وأصبح بعد السفور باب المغارة المسحورة، مغارة التجلّي الكياني، مغارة عرسٍ طويل قويتْ فيه على الطبيعة طبائعُنا المستيقظة، وغلبت أهواؤنا حرمة العرف وجلال الزمن، ولم نقطع على أنفسنا الانخطاف ـــــ هذا باعترافه، وذاك بوديعته، وكلاهما بلقاء نهريهما ـــــ إلاّ بعدما استنفد كلٌّ منّا ذخيرة النومِ عن العالم.
وقلّما عشنا الحياة كما عشناها خلجةً خلجةً في إبّان ذلك النوم التام عن العالم.
■ ■ ■
أن تبوحَ بحبّكَ لمَن يحبّك دون أن يجرؤ على البوح، سعادتان تتغامران. وإذا دخل في البوح قولٌ ما لا يُقال، تَفَتَّح المغلقُ عن مصيرٍ جديد، بل عن مصيرين جديدين، وامَّحَت آفاقٌ ونشأت آفاق، وتفجّر السيلُ برفعِ السدّ. هذه اللحظة، إذا كان المُسِرُّ والمُسَرُّ إليه على موجةٍ واحدة، هذه اللحظة ولادة جديدة، أو هكذا يُخيَّلُ في غمرةِ أصوات الجان. ويستفيق ما كان مطموراً، ويأخذ شرعيّته ما كان مخجولاً به، ويزدوج المُفْرَد، وتزهر العزلة، وتدقّ أجراسُ عرسِ المغارة.
وتتلألأ العينان بأدفأ النجوم: نجوم اغتنامِ ما تيسَّرَ من حلال الحرام...
■ ■ ■
في العثور على مَن يفوقك عِقَداً ثم يُفتّح أكمام عِقَده أمامك، في عثور كهذا أكثر من متعة، أكبر من غبطة: فيه رحمة. هنا تكتسب رفقة عبور الصحراء معانيها التضامنيّة، وبعفويّة لا تَعمُّدَ فيها ولا فجور، بل تدفُّق النبع. ليس أبشع من الفجور في الغوص على ليل الذات. دَعْهُ، هذا الغوص، يتم على رِسْله، بانعطافةِ الهانئ على نفسه، صفاءً على عَكَر وعَكَراً على صفاء، وفي الحالين شروقاً على شروق.
■ ■ ■
هذا البنيان ليس قائماً على الرغبة وحدها، بل على أركانٍ جماليّةٍ لا تضعف أهمّيتها لكونها أركاناً خياليّة و«غير واقعيّة». ما نراه جمالاً هو ما يعكسه الذهن على المرئيّ والمرئيّ على الذهن. ليس هناك امرأة واقعيّة وامرأة وهميّة في ميزان الرغبة، بل امرأة يثير واقعها الخيال. ما لا يثير الخيال هو ما لا وجود له في الواقع. الخيال غبارُ أفراسِ الواقع وأبخرةُ أمواجه ولبابها معاً. أنت هو بُعْدُكَ لا قُرْبك. أنتِ هي أنتِ في المحلوم لا أنتِ في حضيضِ يوميّاتك. لا حريّة لنا حيال استبداد الخيال. نحن عبيده وهو مُخلّصنا وجلاّدنا. تنتهي الحريّة تحت قبضة الجمال، تنتهي في حمّى الرغبة. تبدأ آلام التحسّر على فراغٍ وسيع ريّان، آلامٌ تعرف أنّها ثمن الانحسار، انحسارٌ يعرف أن القرب الدائم، القرب المرعب الهدّام، هو عدوّه، انحسارٌ شَرْطُهُ القبول بهذا الخنجر في الأعماق.
■ ■ ■
وممّا يُضاعف خطورة البوح أنك وأنت تصغي إليه وتهتزّ جوارحك لجرأةِ صاحبه وإعطائك هذه الثقة الغالية، تقول في نفسك: ماذا يجبره على هذا التعرّي وقد كان في وسعه السكوت ولا حتّى الكذب؟
لا شيءَ كان يجبره، لا شيء كان يجبرها.
وهذا الانوهابُ الكاسحُ هو ما يقطع أنفاسك،
وما يضع في حضنك النار التي ستحرقك،
وما يهمس لك بأنه امتياز لكَ، وما هو إلاّ اجتياحك تحت راية الثقة...


تحت عري الأغصان
لو اكتفى الواحد بوصف فراغه لملأ مجلّدات. حياةٌ طويلة من الفراغ تقطعها مراحل مضطربة عندما يتحدّث عنها صاحبها تعطي انطباعاً بأن أيّامه كلّها كانت هذه التجربة أو تلك المعاناة. وليس الآخرُ بحالٍ مختلفة، لو دريتَ، فهو غالباً ما تعكسه أنت عليه، وتحت ذلك شأنه شأنك في الخواء، اللّهمّ إلاّ إذا هبّ به إعصار، كعاطفة أو هوى أو علّة. إن رأسهم ليس بأكثر امتلاءً، وما يشغله في معظم الأحيان قشّات صغيرة.
مشكلة الفراغ، على صعيد فنون التعبير، أنه محدود الأفق شحيحُ النبع. أيّة نقطة، إذا كتبت عنه، تريد أن تبلغ؟ فحواه فراغ وشكله ملل. قد تستطيع السينما أن تصنع منه شيئاً لأن السينما، ولو فارغة، حركة، والحركة تنعش تثاؤب الفراغ وتلوّن رماديّته وتمنحه إيقاعَ تشويقٍ ما، فيصبح، تحت رصد الكاميرا، كأنه سياقٌ لحَدَثٍ آتٍ، لجريمة أو مفاجأة. تقدر السينما أن تصوّر الفراغ دون أن تُضجر، ولكن إلى حين، فالزمن السينمائي يحيا بذاته على أملٍ «بشيءٍ آخر»، وإلاّ اختنق المُشاهد وسقطت الثمرةُ تحت عري الأغصان.
ليس الفراغ دليل انتفاء الشعور أو المعاناة. بل قد يكون رفيقاً (رفيقاً موارباً) لتجارب قويّة. أحياناً يعني الفراغ ركودَ الألمِ في القاع وحالة استراحة أو هدنة، وقد يتخذ بروده معنى الدفاع ولو بدا أنه لامبالاة.
يَحتقر الهادئيّون الضجيج. وهو مخيف حقّاً، ولكنْ ليس للمرهفين الرقيقين فحسب، بل أيضاً لفرائس صَخَبهم الداخلي وعربدة رؤوسهم. لا رحمة هنا ولا هوادة إلاّ في الغرق وسط الضوضاء وتحت سَحْق شلاّلٍ أعظم. يُلاذ من الهمس بالزوابع، من الرأس بالأذنين. ثمّة مَن ينام على هدير الحكي والرقص. الجهاز العصبي يستغيث بأيّ شيء، يلتمس هَدْهَدة. أجمل أنواع الإسعاف يبقى هزيم الرعد وعزيف الريح. لا يبعث الفرح في الروح أكثر من ولولة الريح. إنه حرف الحاء مملكة واحدة في أقاليم عديدة.
مثله مثل بضعة حروف تجلس كالأمّهاتِ على مفارق القَدَر.
■ ■ ■
... وحين الدخول إلى بيتكَ الخالي، لماذا تنتابك الرغبة في مبارحته فوراً؟ هَرَباً من فراغه؟ لا، بل هرباً من لقائك بروحكَ الجبانة في فضائه الذي يأبى إلاّ أن يجمعكما وجهاً إلى وجه بين أنياب السكون.


عابرات

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عوى
وصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
الأُحَيْمِر السعدي

عبرَ هولاكو على جسرٍ من الكتب فلم يثقل الزمن رجْله، ومضت الحياةُ في طريقها، كأن هذه الكتب لم يكتبها أحد، بل كأن أصحابها لم يُخْلَقوا قط.
عبد القادر المازني

لولا الشاعر لماتت الآلهة.
مارون عبّود

إذا أنعمتَ النظرَ في الهاوية تجد أن الهاوية تنظر إليك.
نيتشه

انبساطكَ عورةٌ من عوراتك، فلا تبذله إلاّ لمأمونٍ عليه وجديرٍ به.
أفلاطون

وحدها إرادة عدم القيام بشيء تسمح للأمور بأن تتبدّل من تلقائها.
رولان جاكار

نَعَم الفنّ لعب، ولكنْ يجب أن نلعب بجديّة الطفل الذي يلعب.
روبرت لويس ستيفنسن

ما من أحدٍ مذنب، لا أحد! أقول: ولا أحد!
شكسبير
(«الملك لير»)