لمناسبة تحوّله إلى تنظيم سياسي مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، أصدر تيار المستقبل وثيقة تضم رؤيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد عُرضت أجزاء من هذه الوثيقة في المؤتمر الذي عقده التيار أخيراً في قاعة «البيال» في بيروت في إطار التحضير للانتخابات

عصام الصيّاد *
سنحاول في ما يلي إلقاء نظرة على وثيقة تيار المستقبل، وتحليلها ونقدها، بالاستناد إلى معيارين اثنين:
أ‌ ـــــ المعيار الأول هو مدى الانسجام بين الغايات المعلنة في الوثيقة والوسائل التي تحددها للوصول إليها، ذلك لأن العناوين العامة مثل تلك التي تتضمنها الوثيقة، كالإصلاح السياسي، والنمو الاقتصادي، وإصلاح الإدارة، والعدالة الاجتماعية، وتطوير التعليم، ودور الشباب، وحقوق المرأة... قد تعبّر عن مضامين مختلفة إلى درجة التعارض تبعاً لاختلاف توجهات القوى التي تطرحها. من هنا، فإن ما يمكن الركون إليه هو المضمون الذي يمكن ترجمته إلى خطط وإجراءات ملموسة ومحددة، لا العبارات الإنشائية التي قد لا تعني فعلياً أي شيء على الإطلاق.
ب‌ ـــــ أما المعيار الثاني، فهو مدى الانسجام بين الوثيقة والممارسة الفعلية لتيار الحريري، وخاصة أن هذا التيار لا يزال يحتل المواقع الأساسية في الحكم منذ سنة 1992 حتى اليوم . فالممارسة هي التي تكشف مدى صدقية الكلام الذي يقال. مع الإشارة إلى أن لجوء تيار الحريري إلى تبرير سلوكه في الحكم بواسطة التذرّع بالضغوط التي كان يمارسها عليه الوجود السوري في لبنان هو تبرير لا يمكن قبوله. فرجل الدولة الحقيقي يحكم وفقاً لما يمليه عليه ضميره واقتناعاته، أو ينسحب من الحكم ويتحوّل إلى المعارضة. علماً بأن التيار المذكور كان على شراكة كاملة وصداقة حميمة مع الثنائي: عبد الحليم خدام، وغازي كنعان، طوال فترة إشرافهما على الملف اللبناني.

أوّلاً: العناوين السياسيّة

1ـــــ بهدف استعادة الحقوق اللبنانية تدعو الوثيقة إلى تطبيق القرارات الدولية، ولاسيما القرار 1701.
الملاحظ هنا أن الوثيقة لا تحدد الوسائل التي يمكن استخدامها للوصول إلى تطبيق القرارات الدولية واستعادة الأراضي اللبنانية التي تحتلها إسرائيل. لكن من الواضح أنها تراهن على مجلس الأمن والمجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، للوصول إلى ذلك. وهو رهان لم يثبت يوماً جدواه. فالقرار 425، على سبيل المثال، الصادر سنة 1978 والداعي إلى انسحاب إسرائيل من لبنان، بقي سنوات طويلة حبراً على ورق. ولم يبادر المجتمع الدولي، ولا الولايات المتحدة، إلى الضغط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب.
في المقابل نجحت المقاومة اللبنانية بين عامي 1982 و2000، بواسطة الكفاح المسلح، في طرد إسرائيل من القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة. وهي الأقدر في المرحلة الحالية على استكمال تحرير الأرض.
ومن الملاحظ أيضاً أن الوثيقة لا تتطرق، لا من قريب ولا من بعيد، إلى الاستراتيجية الدفاعية، أو إلى تزويد الجيش بالأسلحة المتطورة، أو إلى دور المقاومة. غير أنه يمكن التعرف إلى مواقف تيار الحريري من القضايا الأخيرة في ممارسته السياسية. فطوال فترة وجوده في الحكم لم يعمل هذا التيار لتزويد الجيش بالأسلحة الضرورية للدفاع عن لبنان في مواجهة الخطر الإسرائيلي، بل على العكس من ذلك، لجأ إلى التضييق على الجيش، سواء لجهة التسليح وتوفير الذخيرة، أو لجهة التجنيد والتجهيز وما إلى ذلك. وفي ما يتصل بالاستراتيجية الدفاعية انضم تيار المستقبل إلى غالبية قوى «14 آذار» في الدعوة إلى الاعتماد على القرارات والضمانات الدولية وحدها. أما في ما يتعلق بالمقاومة ودورها، فمن الواضح أن تيار المستقبل يقف إلى جانب قوى «14 آذار» الأخرى، كالقوات والكتائب، في الدعوة إلى التخلص من المقاومة ونزع سلاحها.
2 ـــــ تدعو الوثيقة إلى دولة مدنية لا تخضع لصراعات الطوائف.
غير أنّ من الملاحظ أن الوثيقة لا تتضمن أي إشارة إلى إلغاء الطائفية، سواء في المؤسسات الدستورية أو في إدارات الدولة ومؤسساتها. وهي لا تشير أيضاً إلى إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية التي ينصّ عليها اتفاق الطائف، على الرغم من كثرة الكلام على أهمية هذا الاتفاق وضرورة تطبيقه.
أما إذا نظرنا إلى الممارسة الفعلية، فنجد أن تيار المستقبل قد لجأ، ولا يزال، إلى الشحن المذهبي بهدف زيادة وزنه في المعادلة الطائفية اللبنانية. وهو لا يزال يسعى إلى تحويل اللبنانيين المنتمين إلى المذهب السني إلى طائفة منغلقة، الأمر الذي يتعارض مع تاريخهم العروبي المنفتح، وانتمائهم الوطني، ومصالحهم في مختلف المجالات. ولا يزال يسعى إلى احتلال موقع الناطق الوحيد باسم السُنّة من خلال جهوده الهادفة إلى القضاء على التنوع السياسي في صفوفهم، باستخدام المال السياسي والشحن المذهبي.
3 ـــــ تدعو الوثيقة إلى تعزيز القضاء وقيام سلطة قضائية مستقلّة.
غير أن الممارسة الفعلية لتيار الحريري في الحكم كان لها الدور الأكبر في الإساءة إلى القضاء وإفساده، فضلاً عن تهميش دور أجهزة الرقابة، مثل مجلس شورى الدولة، وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي، ومجلس الخدمة المدنية، وسواها.
ولا ننسى أن الحكومات المتعاقبة لتيار الحريري لم تأخذ يوماً بتوصيات مجلس الخدمة أو التفتيش، ورفضت كذلك تنفيذ الأحكام الصادرة عن مجلس الشورى، والقرارات الصادرة عن ديوان المحاسبة.
4 ـــــ تدعو الوثيقة إلى اعتماد الكفاءة في الإدارة الحكومية.
أما ممارسة تيار الحريري في الحكم فتدل على عكس ذلك تماماً. فالتعيينات والترقيات تكون دائماً وفق معايير الزبائنية السياسية والاستزلام في مختلف الوظائف الحكومية، ومن بينها وظائف الفئة الأولى، والجامعة اللبنانية وغيرها.
5 ـــــ تدعو الوثيقة إلى «اعتماد قانون انتخاب عصري»،
إلا أنها لا تحدد أي شيء عن مواصفات هذا القانون. ومن الواضح أن إضافة صفة «عصري» إلى القانون المقترح، إنما تهدف إلى تلميع الاقتراح وإبهار القارئ، إلا أنها تبقى عاجزة عن تبرير مواقف تيار الحريري المعروفة من قوانين الانتخاب السيئة الصيت، ومشاركته في صنعها منذ اتفاق الطائف حتى اليوم.
فقد تصدى هذا التيار لمحاولات إدخال النسبية إلى قانون الانتخاب ولإلغاء القيد الطائفي. ورفض وضع قيود جدية على استخدام المال الانتخابي، واستغلال الخدمات الفردية والمساعدات الإنسانية لأغراض انتخابية، وتسخير وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة للأغراض المذكورة.
وتدعو الوثيقة إلى المشاركة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي من خلال المجلس الاقتصادي ـــــ الاجتماعي. غير أن هذا الكلام يفتقر إلى الحد الأدنى من الصدقية نظراً لكون حكومات الحريري هي التي عمدت إلى تهميش المجلس المذكور وتعطيل دوره.
وتدعو الوثيقة إلى المشاركة على الصعيد الإعلامي من خلال المجلس الوطني للإعلام. إلا أنّ هذا الكلام يفتقر إلى الصدقية أيضاً. فالمحاصصة بين حيتان المال وغيلان الطائفية على صعيد وسائل الإعلام تمّت في عهد حكومات الحريري، ونال تياره حصة كبيرة منها.
6 ـــــ تدعو الوثيقة إلى الدولة الفاعلة في محيطها من خلال اعتماد التوجهات الآتية:
ـــــ الخروج من الاصطفافات السياسية والفكرية السائدة في العالم العربي: غير أن هذه الدعوة ليست فعلياً سوى محاولة مكشوفة للتغطية على انضمام قوى «14 آذار»، وفي طليعتها تيار المستقبل، إلى محور الأنظمة العربية الدائرة في فلك الولايات المتحدة، والمسماة زوراً من الأخيرة: «أنظمة معتدلة».
ـــــ اعتماد ثقافة الوصل في مواجهة ثقافة الفصل: إلا أن الوثيقة لم تجرؤ على تسمية الدول التي تدعو إلى التواصل معها. علماً بأن مفهوم ثقافة الوصل هو مفهوم أميركي يرمي إلى فرض التطبيع مع إسرائيل على العرب، إضافة إلى فرض التقارب مع القوى والهيئات الداعمة للصهيونية.
ـــــ طيّ صفحة الماضي مع سوريا وتطبيع العلاقات معها: وهو توجّه يتعارض تماماً مع ممارسات تيار المستقبل الذي يواصل انتهاج سياسة توتير العلاقات مع هذه الدولة الشقيقة. الأمر الذي يلحق أفدح الأضرار بلبنان سياسياً واقتصادياً، ويسيء إلى العلاقات العربية العربية.
ـــــ طيّ صفحة الماضي الأليم بين الشعبين اللبناني والفلسطيني: الملاحظ أن هذه الفقرة لا تتطرق بتاتاً إلى الحقوق المدنية والسياسية للفلسطينيين في لبنان، بل تقتصر على الجانب الأمني فقط. وهي النظرة التي تعتمدها السلطة اللبنانية، ويجري في ظلها حرمان الفلسطينيين من إعمار مخيماتهم، ومن حق ممارسة ما يزيد على سبعين مهنة. يضاف إلى ذلك الإجراءات ذات الطابع العنصري المستحدثة بحق الفلسطينيين، وآخرها حرمانهم حق التملك، حتى ولو كان مجرد شقة للسكن.
7ـــــ تدعو الوثيقة إلى إحلال ثقافة السلام والعيش معاً في لبنان والمنطقة.
مما لا شك فيه، أن السلام هو غاية إنسانية نبيلة تسعى جميع شعوب العالم، بمن فيها العرب واللبنانيون، إلى الوصول إليها. غير أن الصهيونية، ومن يقف وراءها من دول إمبريالية على رأسها الولايات المتحدة، فرضت العنف على العرب. فقد بادرت إلى احتلال فلسطين وتهجير الشعب الفلسطيني، ومارست العدوان على الدول العربية، واجتاحت لبنان واحتلت قسماً مهماً من أراضيه، وارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين والعرب عموماً.
في مواجهة هذا العنف الإمبريالي الصهيوني، انتفض الفلسطينيون، وانتفض العرب للدفاع عن وجودهم. لذلك إنّ «العنف» العربي هو ردة فعل مشروعة في مواجهة العنف الصهيوني غير المشروع. ومن هنا نرى أن ثقافة السلام التي تدعو إليها الوثيقة ليست سوى ثقافة استسلام، لأنها تتضمن القبول بالظلم والتخلي عن الحقوق والكرامة.
ومن دواعي الاستنكار أن يأتي الترويج لثقافة السلام من الولايات المتحدة وأصدقائها في لبنان والبلاد العربية، خلال المرحلة ذاتها التي تشهد الاحتلال الأميركي للعراق، وتصاعد العدوانية الصهيونية على الشعبين الفلسطيني واللبناني كما تجلـّت خلال الحرب على لبنان سنة 2006، والحرب الأخيرة على غزة. الأمر الذي يجعل «ثقافة السلام» مجرّد أداة من أدوات الحرب النفسية التي يستخدمها الحلف الأميركي الصهيوني الرجعي بهدف فرض الاستسلام على العرب، وضرب معنويات المقاومة، ودفع الناس للانفضاض عنها.
في المقابل، نحن ندعو إلى ثقافة المقاومة لاستعادة الحقوق العربية، وندعو إلى التصدي للعدوان الأميركي الصهيوني.
فالمقاومة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام الشعوب التي تتعرض للاعتداء من دول كبرى تتمتع بالتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي. وقد أثبتت ذلك معارك التحرر الوطني في الجزائر، وفيتنام، وفي لبنان أيضاً، فضلاً عن الكثير من بلدان العالم الأخرى. ولا ننسى أن مبادرة السلام العربية قد وصلت إلى الفشل، كما فشلت أيضاً المراهنات المتكررة على الوعود والضمانات الأميركية.

ثانياً: العناوين الاقتصادية الاجتماعية

1 ـــــ الاقتصاد:
تحت هذا العنوان، تستعير الوثيقة عبارات يستخدمها المعترضون على النهج الاقتصادي لقادة هذا التيار، ولا سيما نهج فؤاد السنيورة. من بين العبارات المشار إليها نذكر: التنمية الشاملة للمناطق والقطاعات، وزيادة فرص العمل، ودور الدولة في عملية الإنماء. غير أن العبارات المذكورة تبقى مجرد عبارات إنشائية أُدخلت إلى الوثيقة بهدف تزيينها. فهي تأتي عارية من أي إجراءات أوخطط قادرة على ترجمتها إلى برنامج فعلي. والأهم من ذلك كونها غريبة تماماً عن ممارسات قادة تيار المستقبل منذ تسلمه المفاصل الأساسية للحكم سنة 1992 حتى اليوم.
من المعروف أن الحكومات المتعاقبة منذ سنة 1992 حتى اليوم سعت إلى إعادة بناء الاقتصاد كما كان قبل الحرب الأهلية، مع كل جوانب القصور والخلل والتفاوت القائمة فيه، رغم أن الجوانب المشار إليها، ولا سيما الحرمان في المناطق البعيدة عن العاصمة وفي ضواحي البؤس المحيطة بها، إضافة إلى الظلم الاجتماعي، مثّلت مجتمعة عاملاً أساسياً من عوامل تفجّر الحرب سنة 1975.
لقد ركزت حكومات ما بعد الطائف على تنمية وسط بيروت (سوليدير)، وأهملت المناطق والضواحي، ضاربةً عرض الحائط بمبدأ الإنماء المتوازن الذي دعت إليه وثيقة الطائف. وأعطت الأولوية للقطاعات المالية والمصرفية والخدماتية والعقارية على حساب الزراعة والصناعة والقطاعات المنتجة الأخرى. من هنا جاء نجاح المصارف في تحقيق أرباح طائلة، وشهدت أسعار العقارات ارتفاعات متتالية نتيجةً للمضاربة العقارية. في المقابل، شهدت النشاطات الصناعية والزراعية والحرفية أزمات عميقة أدت إلى تراجعها، وإلى إقفال العديد من المؤسسات وتسريح عمالها.
وبالعودة إلى تصريحات السنيورة، وغيره من المسؤولين الحكوميين، نلاحظ تشديدهم على القول إن مستقبل لبنان الاقتصادي ليس في الزراعة أو الصناعة، بل في الخدمات المالية والمصرفية، وفي النشاط العقاري وبعض أنواع السياحة. غير أن نتائج تلك السياسات كانت كارثية على مختلف الصعد؛ من الركود الاقتصادي إلى أزمة المديونية، ومن البطالة والهجرة إلى ارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات مرعبة.
ما تقدم ذكره يثبت بما لا يترك مجالاً للشك أن ما جاء في وثيقة تيار المستقبل في مجال الاقتصاد لا يعدو كونه نوعاً من الخطاب الذي يراد به التضليل والتعمية على الوقائع الفعلية.
2 ـــــ الإدارة:
تتناول الوثيقة تحت هذا العنوان ثلاث قضايا هي: ترشيق الإدارة العامة، واختيار العاملين في القطاع العام بشفافية على أساس الكفاءة، وتفعيل دور أجهزة الرقابة.
القضية الأولى، أي ترشيق الإدارة، تذكّر بمشروع التعاقد الوظيفي السيئ الصيت الذي طرحه السنيورة قبل عدة سنوات تجاوباً مع توجيهات البنك الدولي. هذا المشروع يقضي بإلغاء ملاكات الدولة، واستبدال الموظفين الدائمين بمتعاقدين لمدة خمس سنوات. إلا أن الإضرابات والتظاهرات الحاشدة التي قام بها المعلمون، وبقية العاملين في القطاع العام، أدت إلى دفن المشروع المذكور في المهد.
مما لا شك فيه أن إلغاء ملاكات الدولة، في حال تنفيذه، كان سيؤدي إلى وقوع الإدارة العامة في الهزال الشديد الذي يمهّد للموت، لا إلى الرشاقة. علماً بأن انتفاخ الإدارة العامة بالموظفين الفائضين حصل في عهد الحكومات التي كان السنيورة وزيراً فيها وبمشاركته. فالتوظيف في الدولة هو أحد مصادر نفوذ الزعماء والحكام.
أما اختيار العاملين في القطاع العام بشفافية على أساس الكفاءة فليس له أي اعتبار. ويعرف اللبنانيون جيداً أن التعيينات إنما تجري على أساس المحاصصة بين زعماء الطوائف، لا على أساس الكفاءة. وفي ما يتصل بأجهزة الرقابة، يعرف القاصي والداني أن السنيورة لا يعير أي اهتمام لقراراتها وتوصياتها، بل ينظر إليها نظرة سلبية نتيجةً لكشفها فضائح الفساد والهدر، واعتراضها على تجاوزه للقوانين.
3 ـــــ العدالة الاجتماعية:
إنّ من يقرأ ما جاء في الوثيقة تحت هذا العنوان يصاب بالذهول نظراً لتعارضه العميق مع التوجهات الحقيقية لقادة تيار المستقبل ومواقفهم وممارساتهم. فالوثيقة تدعو إلى الارتقاء بمستوى المعيشة، فيما عرف اللبنانيون في عهد حكومات السنيورة ـــــ وزيراً للمالية أو رئيساً ـــــ أسوأ انخفاض في مستوى معيشتهم.
وهي تدعو إلى الرعاية الصحية للمواطنين، بينما يحجب السنيورة الأموال المستحقة للضمان الصحي بهدف تفليسه تمهيداً لتخصيصه. ويدّعي تيار المستقبل في وثيقته أنه يتبنى حق المواطن بالسكن، في الوقت الذي أدى فيه تشجيع قادته للمضاربة العقارية إلى مضاعفة أسعار المساكن، حيث أصبح متعذراً على معظم اللبنانيين الحصول على شقة، ولو صغيرة ومتواضعة. كذلك يدعي أنه يريد تشجيع الاستثمارات في الصناعة والزراعة، في الوقت الذي أدت سياسات قادته في الحكم إلى تراجع الزراعة وإفلاس العديد من المصانع.
4 ـــــ التربية والتعليم:
تحت هذا العنوان نرى في الوثيقة توجهات زائفة بإمكان أي مراقب كشف زيفها من خلال مراجعة مواقف قادة تيار المستقبل وممارساتهم في الحكم. ففيما يدّعي التيار أنه يجد التربية هي المدخل إلى التنمية، نرى السنيورة يردد أمام ممثلي الهيئات النقابية للمعلمين أن التربية هي قطاع غير منتج، ونراه يعمد إلى خفض حصّة التربية من ميزانية الدولة إلى ما دون 10%، بعدما كانت قد وصلت إلى ما يزيد على 20% في السبعينيات.
وفيما يدعي التيار أنه يقف إلى جانب التعليم الرسمي وتمكينه من منافسة القطاع الخاص، نلاحظ بأسف شديد ما لحق بالمعلمين من غبن في عهد حكوماته؛ من خفض معاشات التقاعد 15%، إلى عدم التعويض عليهم إلا بنسبة هزيلة من غلاء المعيشة. ونلاحظ أيضاً تجاهل تطبيق قانون إلزامية التعليم ومجانيته، فضلاً عن التضييق على الجامعة اللبنانية مالياً وإدارياً.

الخلاصة

بعد استعراض ما جاء في وثيقة تيار المستقبل وتحليله، يتبين أن الوثيقة لا تعدو كونها نصّاً إنشائياً يتضمن أفكاراً متعارضة تفتقر إلى الانسجام في ما بينها، وتفتقر إلى ما يكفل ترجمتها إلى برنامج فعلي. يضاف إلى ذلك غياب معظم الأفكار المشار إليها عن مواقف قادة تيار المستقبل وممارساتهم.
ما سبق قوله يدفعنا إلى الاستنتاج أنّ إعلان الوثيقة على أبواب الانتخابات النيابية لا يعدو كونه أسلوباً من أساليب الدعاية الانتخابية. ومما لا شك فيه أن هذه الدعاية تطلق وعوداً لن يسعى واضعوها بتاتاً إلى تحقيقها، بل سيكون مصيرها النسيان من هؤلاء قبل غيرهم.
* كاتب لبناني