وائل عبد الفتاحعواطف لا سياسة. السياسي في العالم العربي دائماً منفعل. مشحون بالغضب أو الغضب المضاد. قريب من الاحتقان، على وشك انفعال. ورغم أن هذه علامات الشعور بالكوارث، فإنها نوع من عواطف ليست دافعة للخروج. لكنها تحفر خنادق. وتقيم متاريس. وترفع أعلاماً وتكتفي بالهجاء ولطم الخدود. العواطف لا غيرها هي القوة الحيوية. والسياسة فعل سلبي دائماً. اصطياد للخصوم أو اختراع للأعداء. تلتهب المشاعر في ذكرى النكبة. تنتعش فرق الندب السياسي. تستيقظ المشاعر الجارحة وكأن النكبة لم يمر عليها ٦١ عاماً. ولم تستطع انتصارات متعدّدة محوها.
الانتصار ناقص. عابر. يبدو هناك من يريد حرباً دائمة كدليل وحيد على الصمود والفروسية. وهناك من يعتبر «القضية» تجارته الوحيدة؛ إذا انتهت فستفقده مواقعه. القضية أصبحت بعد كل هذه السنوات أقرب إلى «ميتافيزيقيا سياسية». معركة خيالية مثل الموجودة في كتب الخيال السياسي المقدس. معارك بلا نهاية. ولا قضية معاصرة. ولا مكسب ولا خسارة. تحرّكها قوى غيبية. وتنتصر فيها القوى المدججة بإيمان عالٍ بالذات.
القضية لم تعد فلسطين كما تربّت الأجيال. أصبحت المتحدثين باسم القضية. المتصارعين حولها. الرئيس حسني مبارك، في حوار مع التلفزيون الإسرائيلي، رأى أن الحد الفاصل بين مصر وإسرائيل هو «المشاكل»، وأن إسرائيل لن تحقّق سلاماً ما دامت تثير المشاكل.
مبارك يحجز موقع نظامه في عملية تسوية غير واضحة المعالم. تسوية تريد إطفاء الحرائق في المنطقة ليس بمنطق الصراع من أجل الحق، ولكن تحقيقاً للأمن.
القضية أصبحت أصغر، بينما يتضخّم الصراع بين المتحدثين باسمها. تعود الحلول إلى ما قبل الحروب كلها. إلى الدولتين. الرجوع إلى تلك النقطة لم يكن مكسباً أو خسارة. وهو منطق مقبول في الحروب والسياسة. لكنه هزيمة للمطلق أمام النسبي. ظلّت العواطف والمطلقات هي الخط الحاكم إلى أن هوت عناصر السياسة. وانسحبت توازنات القوى لمصلحة الجرح النرجسيّ الأول في النكبة.
لا تزال «القضية» تحمل سمات ردود الفعل الأولى للنكبة. وهو اسم مخادع للهزيمة العسكرية والسياسية. خداع ظل حاكماً في صورة «القضية» والتحركات من أجلها. لا يزال البحث عن الخائن والبطل. ثنائية أجّلت النظر إلى عمق القوة التي واجهت عصابات الأحلام الصهيونية. هل كانت قوى جيوش الدفاع العربية المدافعة عن فلسطين ١٩٤٨ جاهزة وقوية ومدرّبة؟ سؤال أعتقد أنه لم يُطرح رغم مرور الواحد والستين عاماً. الانشغال كان في البحث عن مصدر الخيانة.
ولكون القوة معطىً مفروغاً منه، معطى متعالياً على الزمان والمكان، لم يكن هناك اعتراف بالهزيمة لتكون مقدّمة لنصر كلما أتى شعر العرب بنقصانه واختلفوا فيه. منذ ١٩٥٦ حتى ٢٠٠٦ يختلف العرب على «حقيقة» النصر، ومعانيه ومفاهيمه. وربما كانت حرب تشرين ١٩٧٣ هي الأكبر والأضخم، إلا أنها هي الأخرى لم تخضع لدراسات تبحث عن مؤشرات القوة والضعف بدلاً من متاهة الثنائية اللعينة: الخائن والبطل.
هذه الثنائية مكانها ليس ساحة القتال أو طاولة المفاوضات. مكانها هو سجال المعارك الانتخابية. وكما يحدث في إسرائيل، لم تتغيّر قوتها مع تغيّر حكامها. ولم تنقلب سياساتها الانقلاب المريع الذي انقلبت به السياسات العربية من اللّاءات الثلاث ضد السلام إلى اللّاءات النهائية ضد الحرب.
انتقالات لا عقلانية. وتصوّر خرافي للصراع مع إسرائيل كأنه خارج التاريخ أو بعيد عن مجالات النسبية السياسية والإنسانية.
هل من المعقول أن لا يستطيع العرب تجاوز هزيمتهم الأولى ويندفعوا بحماقات كثيرة إلى هزيمة متجدّدة؟ الاحتقان يجعل الهزيمة قاب قوسين أو أدنى، بينما الواقع يقول إن هناك مساحة تلاقٍ عقلاني تضيعها «حرب المواقع العربية». هناك قوة دافعة في العالم لحصار طموح يمثّله نتنياهو بسيادة إسرائيل على المنطقة كلها. يبحث «بيبي» في واشنطن عن ضوء أخضر لضرب قوة إيران النووية. وأوباما المشغول بالمعارك الداخلية يريد نهاية أكثر هدوءاً للتصعيد مع طهران.
وحدهم يتحركون ويتصارعون في أجندات سياسية تديرها حزمة مصالح، بينما يلهو العرب في استعراضات ألعاب نارية تسرّب العواطف المحتقنة منذ «النكبة».
الألعاب النارية تجعل اجتماعات الفصائل الفلسطينية في القاهرة تنتظر مؤشرات من واشنطن. وأبو مازن يعبر المحيطات لكي يتلقّى النتائج، لا لكي يقترح. أمّا مبارك ورهط المعتدلين، فهم سعداء كل السعادة بنجاحهم في عبور الأزمات مع «المتوحّش» بوش وانتظارهم لسماحة أوباما.
انتظارات مؤرقة لكل من يرى ما جنته نكبة العواطف. المندوب الأميركي يحمل المفاتيح الجديدة. ومواسم الزيارات إلى البيت الأبيض تصوّت على اقتراح الدولتين العائد مع أوباما من ذاكرة الأيام الأولى. لن يتذكر العرب لماذا رفضوا الحل أمس. لكنهم اليوم سيعتبرونه أفضل الحلول. من تغيّر؟ كيف تحركت عناصر القوة؟ هذه أسئلة تستحق التفكير بعيداً من لطم الخدود وقذائف الاتهامات وشحنات العواطف الملغمة. متى يعلن العرب نهاية نكبة العواطف؟