أثار التقرير الذي نشرته «الأخبار» (11/6/2009) تحت عنوان «كذبت الاستطلاعات ولو صدقت» ردود فعل متفاوتة لدى عدد من مراكز استطلاعات الرأي في لبنان. منهم من اتصل بالجريدة منتقداً التعميم ومؤكداً أن نتائج الاستطلاعات التي أجراها لم تخطئ، ومنهم من اتصل معاتباً، لكنّه لم يتبرّأ من نتائجه بل حاول البحث عن أسباب فشلها، ما استحق عودة ثانية إلى الموضوعمهى زراقط
هل قلب المغتربون المعادلة... أم لم يقلبوها؟
هذه هي أحجية استطلاعات الرأي في لبنان اليوم، بين من يدافع عن نتائجه التي أفشلها اقتراع غير متوقع لعدد كبير من المغتربين إضافة إلى ارتفاع نسبة التصويت ارتفاعاً غير مسبوق في تاريخ الانتخابات النيابية، كما يقول مدير مركز بيروت للأبحاث عبدو سعد، ومن يرفض تضخيم حجم المغتربين واعتباره العامل الأبرز لقلب النتائج، كالباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، حيث يرى الأخير أن دور المغتربين لم يكن أكثر من زيادة أو تقليص حجم فارق الربح والخسارة.
في الحالين، لا تزال استطلاعات الرأي موضع اتهام، كما كانت عليه الحال دائماً. صحيح أن هذه التقنية استقبلت بحفاوة مع ولادتها في أميركا عام 1824، تاريخ أول استطلاع رأي موثّق أجرته صحيفة The Harrisburg Pennsylvanian على نطاق محلي (توقع تفوّق أندرو جانسون على جون كوينسي أدامز في الانتخابات الأميركية). لكن الأخطاء اللاحقة التي وقعت فيها مراكز الاستطلاعات جعلتها موضع نقد وصل إلى ذروته عام 1973 على لسان عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، حين نفى في مقالة شهيرة وجود الرأي العام (l’opinion publique n’existe pas).
المثل التاريخي الذي يقدّم عن فشل استطلاعات الرأي هو ذاك الذي أجرته جريدة Literary Digest. هذه الجريدة كانت قد أجرت أول استطلاع شمل الولايات المتحدة بأسرها عام 1916، ونجحت في توقّع فوز وودورز ويلسون برئاسة أميركا. لكن الجريدة فشلت بعد 20 عاماً في توقعاتها، إذ لم يفز ألف لاندون في الانتخابات على فرنكلين روزفلت. هذا الفشل سببه عيّنة الاستطلاع. صحيح أنها طالت آنذاك 2.3 مليون مواطن، لكن تبيّن لاحقاً أنه العدد الذي استجاب للاستمارات في إطار عيّنة أوسع مؤلفة من 10 ملايين شخص. المشكلة كانت في طريقة الوصول إلى أفراد العيّنة، والتي اعتمدت على المشتركين في الجريدة، أرقام الهواتف وأرقام السيارات الخاصة. لكن الولايات المتحدة كانت تعاني كساداً اقتصادياً آنذاك، فكان أفراد العيّنة من أصحاب المداخيل المرتفعة الذين يمكنهم الاشتراك في جريدة، ويملكون هواتف وسيارات، وهذا يعني أن العيّنة لا تعبّر عن رأي الشارع.
هل يمكن القياس على لبنان؟ هل تكون المشكلة في العيّنة وطريقة اختيارها؟ هذا ما يقوله شمس الدين الذي يرفض «حجة» المغتربين لأن الطرفين لجآ إليها. برأيه الخطأ في نتائج الاستطلاعات له عدة أسباب، تبدأ بالسياسة وتنتهي بأمور تقنية مثل المنهجية المتبعة أو اختيار العيّنة. وهذا ما يلفت إليه مدير مكتب «الإحصاء والتوثيق» كمال فغالي بالقول إن بعض العيّنات التي اختارها في بعض المناطق «لم تكن تمثيلية، لأن بعض القرى التي كنا نزورها كانت خالية من سكانها» («الأخبار»11/7/2009).
ينطلق عبدو سعد في قراءته النقدية لنتائج استطلاعات الرأي في لبنان من البحث في العيّنة. سعد الذي لم ينشر أي استطلاع للرأي كان قد تحدّث في الإعلام أن «الاستطلاعات التي أجريتها تظهر أرجحية ضئيلة للمعارضة، لكني كنت دائماً أقول إن زحلة هي جسر العبور للأكثرية، من يربحها يربح الأكثرية». يقول هذا الكلام من دون أن يضع نفسه في موقع التبرير، وإن كان يملك حججاً تساعده في ذلك مبنية على نتائج استطلاعات أجراها في الأيام القليلة التي سبقت الانتخابات «لكني لا أريد الحديث عنها لأني لم أنشرها».
ما يعنيه أكثر معرفة سبب الخطأ، وخصوصاً أنه نجح في تقديم نتائج دقيقة في أكثر من استحقاق انتخابي: «فرعية المتن عندما توقعت فوز غبريال المر، فوز هنري الحلو في فرعية بعبدا، نجاح توقعات بلديات 2004 وانتخابات 2005، وحتى فرعية 2007». والسؤال الذي يطرحه على نفسه: «لا أزال أعمل وفق المنهجية نفسها، فلماذا كانت صحيحة سابقاً؟ أين وقع الخطأ؟». في رأي سعد «دخل عامل غير منظور على الانتخابات. كنا نعرف أنه سيُستقدم مغتربون، لكننا لا نعرف عددهم. كل مراكز الاستطلاع قالت بفوز المعارضة، وكلنا أجرينا استطلاعاتنا على الأراضي اللبنانية». هذا العامل يصبح منظوراً إذا قرأت الأرقام جيداً، وبرزت نسبة التصويت المرتفعة التي سجلت أرقاماً قياسية في تاريخ الانتخابات في لبنان، وخصوصاً نسبة التصويت السنّي. يقدم مثلاً عن زحلة: «كنت أجري الاستطلاع على أساس أن السنّة يمثلون 31% من الدائرة، فتبيّن أن نسبتهم ارتفعت إلى 35%. هذا الفارق غير قليل أبداً ويمكنه ببساطة أن يقلب النتائج». إلى التصويت السنّي غير المسبوق، يضاف عامل المغتربين. يقول سعد: «نعم، الفريقان اشتريا أصواتاً واستقدما مغتربين، لكنّ التفاوت واضح وتظهره النتائج». كيف؟
يسأل سعد: «هل هي صدفة أن تتقدم المعارضة في كل المناطق التي فازت فيها (زغرتا، صيدا، كسروان، المتن، وصيدا) عن استطلاعات الرأي التي كنت أجريها، من دون ظهور أي إمكان لخرق الموالاة، ورغم ذلك تخسر الأخيرة بفارق ضئيل من الأصوات؟ في المقابل حيث توجد أرجحية للموالاة، لم يحصل تقدّم للمعارضة، بل تقدمت الموالاة، وخصوصاً حيث كان هناك إمكان للاختراق مثل الكورة والبقاع الغربي؟ هذا يدلّ على أن الموالاة استطاعت أن تحضر العدد الأكبر من المغتربين».
لكن الرقم الذي نشرته أمس «الدولية للمعلومات» في «السفير يشير إلى قدوم 48 ألف مغترب للتصويت (إذا احتسب متوسط عدد المغتربين الذين يعودون سنوياً)، ما يجعل الرقم المتداول عن وصول 120 ألف مغترب غير دقيق. رغم ذلك يرى سعد في الـ48 ألفاً رقماً كبيراً يمكنه أن يحدث فارقاً يقلب النتائج، وخصوصاً في دوائر حساسة كالكورة مثلاً. لكنه يسأل أيضاً ما إذا كان المغتربون الذين يعودون سنوياً قد صوّتوا أم لا؟ منتهياً إلى القول: «في الانتخابات المقبلة يجب أخذ هذا العامل في الاعتبار».


53% لا يثقون بالاستطلاعات
لم يكن اللبنانيون يحتاجون إلى انتخابات عام 2009 ليفقدوا الثقة باستطلاعات الرأي. إذ يفيد استطلاع للرأي نشرته «الدولية للمعلومات» في 2 أيار عام 2002 أن 52.9% من المستطلَعين لا يؤمنون بنتائج استطلاعات الرأي، أعاد 48% منهم السبب إلى عدم اهتمام السياسيين بنتائجها. رقم قد يعني من يثقون بالاستطلاعات!