ضحى شمس *إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنونأيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون
فكيف يمكن أن يكون؟

بدر شاكر السياب

أصيب رجائي بوهمين، الأسير المحرر، بجلطة خفيفة منذ أيام. لم يكن السبب ما رآه رجائي منذ تحريره في 26-6- 1998 حتى اليوم، من «عمايل» لبنان حكومة وشعباً في موضوع الهويّة التي سُجن من أجل الدفاع عنها. كان الأمر عارضاً صحياً مجرداً من الظروف. مناسبة الكلام حصاد العملاء الذي بدأ في الأسابيع الأخيرة، ولا يبدو أن آخره قريب. ففي أفواه الناس ليس هناك إلا سؤال واحد: لماذا؟ لكن هذا السؤال ليس إلا سؤال الوهلة الأولى، حالما يتجاوزونها، ينقسمون إلى فئتين: الأولى لا تفهم رغم التفاصيل. والثانية لا تبدي استغراباً رغم التفاصيل ذاتها، لم يرتسم هذا الانقسام وفقاً للسياسة وخندقَيها الشهيرين والمملّين. ولو أن التعريف الذي يعطيه كل منهما لإسرائيل و.. لبنان يكمن في خلفية مواقف كل منهما. هنا نستعيد شريطاً انتقائياً من أحداث متفرقة، نرويها ونطرح الأسئلة دون المغامرة بجواب.

المشهد الأول: معبر كفر فالوس

مجموعة من الصحافيين تنتظر اللحظة التي سيطل فيها الأسرى المحرّرون في صفقة تبادل أشلاء عملية أنصارية التي كانت قد جرت مطلع عام 1997، والتي أنجزها حزب الله تحت مظلة الدولة اللبنانية. رائحة اسفلت الطريق التي كنا نقف على جنباتها كانت تدغدغ الأنوف بسخونتها في هذا اليوم الصيفي. اسفلت عتيق، كأنه يعود إلى مرحلة سبقت ولادتك. طريق الاسفلت إلى القرى المحتلة لها مظهر طريق يندر أن تدوسها الأرجل أو العجلات. اسفلت باهت وأعشاب مجنونة على جانبيها، كانت ستغطيها وتخفيها لولا يباسها في الصيف. لا يكتمل الديكور من دون صوت «زيز الحصايد» المستمر والشمس القوية.
المرة الأولى التي رأيت فيها رجائي، كان محرراً للتو. بدا، في استسلام وجهه المطلّ من نافذة باص الصليب الأحمر الدولي، مغمض العينين مستسلماً للهواء الذي كان يلفحه، كأنه سمّى هذا الهواء «هواء الحرية»، وأنه كان يريد الارتماء في حضنه كما نرمي بأنفسنا من علٍ في البحر للَذة الابتراد من قيظ طويل نشفت أبداننا منه.
ذلك اليوم، أُخذ المحرّرون إلى دارة بهية الحريري في مجدليون. كان هناك غداء على شرفهم. رحم الله رفيق الحريري.

المشهد الثاني: في باحة المحكمة العسكرية

«هياه هياه» يهمس رجائي لرفيقه في الأسر والتحرر عفيف حمود من كفر حمام. يشير الشاب بعين مواربة اعتادت أن تلحظ الشخص المشار إليه بطرفها. العميل أنطوان الحايك، الذي كان شرطي المعتقل. كان قد خرج من «البوكس» الذي سيق فيه ورفاقه ليتلقّوا محاكمة عسكرية، تحولت صوَريّة بأمر الطوائف. هي المرة الأولى التي يشاهدانه فيها غير معتز بسلطة الإسرائيليين. كان مجرداً من وقاحة «أزعر المحتل» لكنه لم يكن فعلاً خائفاً.
محامو الدفاع كانوا كثراً. ومن تيار يميني محدّد معروف بنمط من العلاقات مع الإسرائيليين. أما الحايك، الذي كان قد خرج من الشريط قبلهما بسنوات ليصبح.. دركياً، فقد اصطحب شهوداً من بلدته ليشهدوا أمام القاضي بأنه لم يكن في الخيام، في الوقت الذي يتهمه فيه الأسرى بالتعذيب، ما يترك له فرصة الإفلات من العقاب. لكن الشباب استدركوا. هكذا، تكاتفوا وأقاموا دعاوى شخصية ضده ما جعله يحصل على عشر سنوات، خرج قبل نهايتها.
طوال فترة المحاكمة، وهي طويلة، لم يكن الأسرى المحررون يفهمون شيئاً. كانوا يقفون كأنهم أجانب يكتشفون وطناً لم يدرسوا عنه في كتب التاريخ والتربية المدنية. وطن التسويات المضمرة برغم نبرة المحقق العالية، بلد غلبة الطوائف على الدولة، وطن العدالة المتعددة السرعة، واللعب على الكلام.
لكن طاقة رجائي ورفاقه على ملاحقة العملاء، لم تكن لدى الجميع. هكذا خرج معظم المتعاملين بملفات بيضاء. لا حكم عليهم. لديهم سجل عدلي «مهفهف» مثلهم مثل الأسرى المحررين.
المشهد الثالث: منزل في القليعة بعد سنة من التحرير
العائلة الصغيرة التي عادت من إسرائيل لتوها، قبلت التحدث عن «التجربة الإسرائيلية». تقص الفتاة ذات السبعة عشر ربيعاً، ووالداها كيف أن «المسيحيين هناك (في فلسطين المحتلة، الذين قصدوهم للعمل أو السكن) طردونا ! قال شو؟ انتو عملاء خنتوا بلادكم ما منستقبلكم»، تقصد المسيحيين الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال والجنسية الإسرائيلية. ثم تختم بكامل عدتها من الاستغراب: «تصوري! مسيحيّي متلنا». الهوية اللبنانية بالنسبة إلى الفتاة التي هربت وعائلتها من وطنها عشية التحرير، كانت الطائفة. هناك مثلها في كل الطوائف. في أيّ كتاب درست؟ الأكيد أنه ليس كتاب رجائي. رجائي ذهب إلى المدرسة الرسمية. أما والداها؟ فقصة أخرى. كيف من الممكن أن يكون للانتماء إلى لبنان معنى بالنسبة إليهما وقد كان عمرهما 10 سنوات عند احتلال الجنوب؟ وهل الانتماء هو كالحب من طرف واحد؟ لبنان؟ لا يعرفون إلا جزءه المحتل، حيث يعيشون في بحبوحة من الشيكلات الإسرائيلية والدولارات الأميركية. يشترون سيارات مهرّبة تنتهي مستوردة عن طريق مرفأ الناقورة غير الشرعي، ويعملون في إسرائيل، عمالاً موسميّين فيما لا يعرفون بيروت. بيروت بالنسبة إليهم كانت تمثّل خطر الحبس أو على الأقل الاستجواب لكل من يخطر بباله الذهاب إلى الوطن، إضافةً إلى الشك فيهم حالما يعودون، وسين وجيم المحتل هذه المرة. لا دولة، لا حقوق لا واجبات، لا خطاب يتبنّاهم أو ينظر إلى وضعهم بما يتجاوز المناسبات. من أين يدخلون في الوطن؟ وحدها الطائفة كانت تمثلهم وتحفظ حقهم في العودة.

المشهد الرابع

تعيد إليك موظفة الصيدلية بقية الخمسين ألف ليرة بمزيج من الدولارات والليرات. تقول لها إنك لا تتعامل بالدولار، فتسألك: ليش بقى؟ تقول لها إنك ستفعل يوم يتعامل الأميركيون بالليرة. تبتسم. أعجبتها الفكرة، لكن الأهم أنه لم تخطر ببالها قبل ذلك.

المشهد الخامس

ينزل طانيوس نهرا من بلدة القليعة عن التراكتور، الذي كان يحرث بواسطته أرضه. وجهه لوّحته الشمس وغضّنته الأيام. يشرق هذا الوجه حالما يرى صحبنا، الأسرى المحررين الذين كان يحرسهم هو كعسكري في جيش لحد، في معتقل الخيام. كان طانيوس يهرّب للشباب رسائل أهلهم، وخبزاً طازجاً ودخاناً. كان لبنانياً تحت الاحتلال. لم يحمل البارودة دفاعاً عن أرضه كما فعلوا. لكنه لم يحملها، فعلياً، ضدهم. وفي الليالي المقمرة، كان وغريمه في إنشاد الزجل، الأسير فلان الفلاني، يلقيان برأسيهما على جدار السجن: الأول من الداخل، والثاني من الخارج. ويبدآن بالتباري على إنشاد الغزليات. كان طانيوس عازباً. فقد أُغرم مرة واحدة كانت القاضية، لأن اللقاء لم يتحقق. مرة واحدة أيضاً كانت قاضية عليه حين عثر الإسرائيليون على رسالة هرّبها إلى أحد الأسرى. «وهيّه كانت» يقول وهو يلتفت إلى صديقيه، مضيفا «بحياة الله خليني صبّلك بعد فنجان». كان طانيوس والشباب قد تحرروا. طانيوس لم يهرب إلى إسرائيل.

المشهد السادس

أخدتنا الميتريس على الكور، وقالت «البويز لوحد والغيرلز لوحد، بس انا وقفت مع الغيرلز ماما، لأنو باتريسيا معهم». يقول مازن ذو السنوات الست لأمه. تنهره الأم: «ما توقف مع الغيرلز ماما، شو انت غيرل؟» لم يخطر ببال الأم أن تحثّ ابنها على الكلام بالعربية. عادي. الولد يتعلم لغات.

المشهد السابع

«أنا وعم اقطع الطريق، كنت بسيارتي، وقفني بوليس السير، وقفت. بس فجاة اتطلعت: يه؟ هيدا العميل (..) كان حارسنا بالزنزانة، وكان يساعد الإسرائيليّي في التحقيق. بتعرفي شو يعني؟ بيربّطنا، بيضربنا، بيجيب سطولة ماي باردة ليكبها علينا لما بيربطونا بالبرد برّه، هيك شي ع القليلة. ايه شافني. شفتو. شو بعمل؟ فجأة دار ضهرو، ما عرفت شو بدي اعمل. بنزل بقوّصو؟ أصلاً ما معي فرد. من وقت اللي فتت ع المعتقل ما معي فرد. ضوّت الإشارة مشيت». تقول سناء أحمد، الأسيرة التي حُررت قبل التحرير. كان عليها التعايش مع الفكرة. وحين جاء التحرير لم يبرد غلّها. فقد قال السيد إنه لا يريد ضربة كف حرصاً على السلم الأهلي. نجاح السيد والتزام المقاومين يوم التحرير، جعلا التحرير فرحة لم ينغصها الا استشهاد أربعة مقاومين في اليوم الأخير في بلاط. الفرحة كانت جامعة، وخطاب السيد في بنت جبيل كان مليئاً بالتسامح وبالدعوة إلى العفو عما مضى، وبلمّ شمل اللبنانيين. يومها قال الجميع «برافو يا سيد». وقالوا: هذا رجل دولة. اليوم، يعرفون جميعاً: العمالة التي لم تلقَ قصاصاً عادلاً، كالعيش في بيت مع ثغرة في السقف. لا شيء يحميك من هؤلاء إلا الدولة. لو قامت بما عليها لكانت قد أكملت ما قام به السيد. السيد ليس الدولة ولو لم تكن قائمة. هو يعرف ونحن نعرف. تمر السنون. يبدأ منذ أسابيع انهيار العملاء. تتكشّف الأمور عن تورط بعضهم بسبب تجنيد الأقرباء الذين ما زالوا في إسرائيل. يطالب السيد الآن بالإعدام لهؤلاء. لسنا مع الإعدام، إلا أن السؤال يُطرح: ماذا عن ثكنة مرجعيون؟ كيف ينفذ السياسيون من أعمال قاموا بها أخطر مما قام به العملاء. تضييف الشاي لجنود العدو أثناء وجود البلاد في حالة حرب. ما اسم هذا؟ ما هو الدرس الذي استبطنه اللبنانيون؟

المشهد الثامن

في عام 1990
تنفيذاً لاتفاق الطائف، ضم عناصر الميليشيات المتحاربة خلال الحرب الأهلية إلى الجيش اللبناني.
في عام 1993
تظاهرة سلمية لحزب الله احتجاجاً على اتفاق أوسلو. الجيش يطلق النار على المتظاهرين . سقوط 13 قتيلاً مدنياً
في عام 2004
تظاهرة سلمية للسائقين في حي السلم احتجاجاً على ارتفاع أسعار البنزين تنتهي نهاية مأساوية: إطلاق عناصر من الجيش، خلافاً لأمر قائدهم كما تبيّن من التحقيقات اللاحقة، النار على المتظاهرين، ما أدّى إلى سقوط خمسة قتلى. الدراسة الميدانية لآثار الرصاص بيّنت أن الرصاص أطلق على مستوى الرؤوس والبطون، أي لكي يقتل.
في عام 2006
قوى الأمن الداخلي تحاول إزالة مخالفة بناء في منطقة الرمل العالي. احتجاجات من الأهالي وتظاهرات. القوة الأمنية تطلق النار على المتظاهرين بدلاً من استخدام وسائل مكافحة الشغب. طفلان يُقتلان. ادعاء على عسكريين.
في عام 2008
تظاهرة احتجاجاً على التقنين الكهربائي في منطقة مار مخايل. الجيش يضرب من جديد: سقوط 7 قتلى مدنيين.
في عام 2009
إلقاء القبض على عملاء لإسرائيل داخل الجيش والقوى الأمنية، منهم ضباط برتبة عمداء وكبار الضباط.

بانتظار مواسم العفو العام عن غرامات السير

ما هو تعريف الخيانة؟ ما هو تعريف الوطنية؟ ما هو تعريف التعاون مع الدول التي تتدخل في شؤوننا وما هي حدوده؟ ما هي حدود التطلع إلى التقدم؟ كره الذات؟ أم معرفتها وحبها والعمل على تصحيح عيوبها؟ ما هي الأولويات الوطنية، وكيف تصاغ؟ كيف يُتفق عليها؟ وكيف يُختلف عليها؟ نبدو في صف تعلّم الدولة كأننا مجموعة أميّين رُفّعوا من صفوفهم بدون امتحان حقيقي. تماماً كما حصل لبعضنا خلال الحرب الأهلية. لا شهادات بل إفادات بتسوية «وطنية». ليس من مهماتي كمواطنة أن أقرر إن كان العملاء سيعدمون أو لا. بل أن أحارب لإلغاء قانون الإعدام. أن أُربّي أولادي على حبهم للغتهم ولمواطنيهم وعملتهم الوطنية، وعلى واجب النضال لتحسين الدولة وتقدمها. أما الدولة، فعليها أن تحدد مصيرهم بطريقة تستطيع إرسال رسالتين: الأولى إلى العملاء بأن جريمتهم كبيرة وتستحق عقاباً كبيراً، والثانية إلى المواطنين بأن الدولة ملتزمة تنفيذ ما اتفق عليه وطنياً من قوانين تجمعهم تحت مفهوم الدولة.
نصر الله، السيد، قام بالشيء الصائب لبنانياً عام التحرير. منع أي ضربة كف؟ قرار صعب كان امتحاناً لالتزام المقاومة وجمهورها بالسلم الأهلي. عميل من دون عقاب؟ ولا نتحدث هنا عن الهاربين لمجرد أنهم تعاملوا مع الأمر الواقع، بل عمّن تلطّخت أيديهم بدماء مواطنيهم، هو عميل مرشح للانتكاسة. وفّرت المقاومة للدولة أرضاً للبناء عليها. لكنها فوتت الفرصة. انبرت الطوائف للعمل على تبرئة عملائها من دون أي مراعاة لحقوق ضحاياهم من المواطنين حتى من الطائفة ذاتها.
تاريخ لبنان الحقيقي، يفهمنا أن الخيانة في لبنان ليست أمراً شائناً لهذه الدرجة. استنسابية العدالة، إهمال معاناة الضحايا، التساهل مع وجوب طلب الصفح العام من جانب مجرمي الحرب الأهلية قبل العفو عنهم. بالأمس قال أحد السياسيين إنه كي يحصل غفران يجب طلب الصفح. من طلب من اللبنانيين الصفح عما فعله بهم خلال الحرب الأهلية؟ من اعترف بجريمته؟ ينتظرون عفواً عاماً تدبّره لهم الطوائف، ثم يكملون حياتهم العامة، لا بل يتبوّأون المناصب كأن شيئاً لم يكن، ويترشحون مرة أخرى للفوز بأصوات ضحاياهم. وللأسف يفوزون.
أيخون إنسان بلاده؟ ولمَ لا؟ ماذا عن درس ثكنة مرجعيون المتلفز؟ من حاكم هؤلاء؟ وكيف تلفلف قضية مثل هذه بالغمغمة؟
تحولت الخيانة التي خصها القانون بوصف «عظمى»، إلى نوع من مخالفات السير، تضطر مرتكبها إلى الذهاب إلى المحكمة، إلّا أنه يعلم أن عقوبتها ليس لها من وصف «العظمى» إلا الاسم. ربح الوقت بانتظار موسم العفو العام المقبل. شيء يشبه مراوغة الفرنسيّين في دفع غرامات السير بانتظار ما اعتاد أن يفعله الرئيس الجديد المنتخب، العفو العام عن الغرامات. الخونة لا يدفعون ثمن خيانتهم في لبنان. لذا يمكن مقابلة تعجب السياب البليغ السهل الممتنع أعلاه، بمجرد ابتسامة حزينة.
* من أسرة «الأخبار»