كامل جابر
ليس سهلاً أن تحظى بجلسة مطوّلة مع فهميّة شرف الدين. فالباحثة في علم الاجتماع والأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانيّة، تقضي وقتها في التنقّل بين مؤتمر وآخر في لبنان والعالم. لقد نذرت نفسها لحقوق الإنسان وقضايا المرأة العربية، وخصوصاً حقّ المرأة اللبنانية في منح جنسيتها لأبنائها. نلتقيها بعد نحو ست ساعات على الموعد المفترض، في شقّتها في الحازميّة. كانت تشارك في مؤتمر عن المرأة. تستهلّ لقاءنا بسرد حكاية عشقها لبيروت. «كانت ولادتي الثانية حين جئت إلى العاصمة، للدراسة في «دار المعلمين والمعلمات» خريف 1960. كانت بيروت تغلي بين الحركة الطلابية والسياسيّة وبين انفتاحها على ثقافات العالم. هنا في بيروت، تعرّفتُ على نفسي».
من بلدتها كفرتبنيت شرقي النبطية حيث أنهت دراستها التكميلية، حملت صغيرة العائلة إلى عالمها الجديد تقاليد البنت الريفية. بدأت الصبيّة باكتشاف عالم مختلف، واهتدت إلى معرفة من نوع آخر، وشكل مختلف للحياة. «على مقاعد «دار المعلمين» اكتشفتُ الأنثى في داخلي، وبدأت أعيشها بمعناها الحقيقي. تعرفت إلى السينما ورأيت أنّه يمكن البنت أن تجالس رفيقها في أحد المقاهي، وعشت تجربة العلاقة بين المرأة والرجل للمرة الأولى. لقد أحدث انتقالي إلى بيروت قطيعةً كاملةً مع حياتي السابقة». ثقافة سياسية جديدة تختلف عن تقاليد قريتها المنقسمة بين أحمد الأسعد وعادل عسيران، عرفتها شرف الدين في العاصمة. تعرّفت على مفاهيم اليسار واليمين، وتمكنت عام 1963 وهي على مقاعد «دار المعلمين» من إنهاء البكالوريا.
عام 1965 حين تخرجت من الدار، عينت مديرة مدرسة في حبوش (النبطية) لعام واحد، ثم ناظرة في «مدرسة المصيطبة الرسمية للبنات»، وتزوّجت في تلك الأثناء. «مرّ وقت طويل حتى وعيت حقي في اتخاذ قرار أو العودة عنه. الزواج لم يضيق عليّ بالمعنى التعليمي، بل بالمعنى الذاتي الشخصي. أنجبت سريعاً ثلاثة أولاد، وبعد 16 عاماً من هذه التجربة، كان لا بد من الطلاق».
تعرّفت إلى الماركسية من خلال زوجها، وصارت جزءاً من ذلك الحراك المتميز في الجامعة. «بيروت من هذه الناحية أعطتني كثيراً. كنت من جيل الستينيات الذي أتى إلى بيروت ليتغير، وأراد أن يغيّر العالم». مع هذا المنسوب العالي من الحلم والطموح، كانت تمارس عملها ناظرةً ومعلمة ثم تعود ظهراً لتهتم بابنها ثم تذهب إلى الجامعة. «لو سُئلت إن كنت أعيد تجربتي لأجبت بالنفي، لقد كانت صعبة جداً»، تقول.
بعد دراسة الفلسفة أكاديمياً، اختارت الماركسية إطاراً تحليلياً نظرياً، واعتبرتها أحد الحلول نحو الحرية وحل مشاكل الأفراد وخياراتهم السياسية. «هزيمة 1967 جعلتني أفكّر في مشاكل العالم العربي. لذلك اخترت موضوع رسالة الدكتوراه الأولى «حول الاشتراكية العربية» وكان ذلك عام 1981».
في عام 1975 ومع انطلاق شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، تقدّمت إلى امتحان مجلس الخدمة المدنية لوظيفة مفتشة على المدارس الخاصة، وكانت الأولى في دفعتها. أنهت الماجستير في فرنسا بعدما أعدت دراسة عن الاشتراكية ومنها عادت لتعمل مع «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» عام 1978.
«المجلس كان ترجمة لانحيازاتي الجديدة، فقد اخترت مكاناً رديفاً للمسألة الحزبية. كان المجلس الثقافي بمثابة المصنع الذي صقل مواهبنا عن طريق النقاش والمحادثة والإحساس بالمسؤولية الثقافية. في هذه السنة، نشرت كتابي الأول «مبادئ أوليّة في الفلسفة»، وكم فرحت حين رأيت كتاباً يحمل اسمي، إنه ميلاد آخر». في هذا العام أيضاً، اختارها معن زيادة رئيس تحرير مجلّة «الفكر العربي» التابعة لمعهد الإنماء العربي، مساعدة باحثة في المعهد. عملت معه على دراسة الفكر العربي مع مجموعة من الباحثين، وأنجزت مجموعة أبحاث نشرتها لاحقاً بين عامي 1985 و1986 وكتاباً من ثلاثة أجزاء في نقد الفكر القومي العربي.
«موسى وهبي ساعدني في إعادة تكوين عقلي الفلسفي، ومعن زيادة وضعني على سكة البحث وأعطاني فرصة لأعمل في البحث العلمي. تعييني مديرة لـ«معهد الإنماء العربي» عام 1983 كان المحطة الثانية التي غيرت مجرى حياتي كلها». تجربتها في المعهد وعملها مع 110 موظفين إداريين ونحو 500 باحث وباحثة، على إصدار المجلات والموسوعات العلمية، دعما ثقتها بنفسها وأتاحا لها فرصة التعرف إلى كبار المثقفين في العالم العربي. هذا ما أكسبها الخبرة الضرورية لإدارة التناقضات السياسية والثقافية. في 1986 تخلّت عن مهنة التفتيش، وتركت إدارة المعهد عام 1994. خلال هذا الوقت لم تنقطع عن المحاضرة في «معهد العلوم الاجتماعية» في الجامعة اللبنانية، حيث تدرّس علم اجتماع المعرفة. وعام 1991 أعدّت دكتوراه ثانية عن «الثقافة والأيديولوجيا في الوطن العربي بين الستينيات والتسعينيات». تركّز في دراستها على التيارات الثقافية التي كانت على علاقة عضوية بالأيديولوجيا، وعلى التمييز بين الأصولية الجهادية والأصولية السلفية. نشرت هذه الدراسة باللغة الفرنسية عام 1994 عن «دار الآداب» وفي العام التالي نشرت في فرنسا.
في العام نفسه، مثلت «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في مؤتمر بكين عن المرأة. «التحليل الماركسي كان يقول إن لا قضية خاصّة للمرأة، وإنه سيتم تحرير النساء عندما يتحرر المجتمع. بعد كل المآسي وانهيار تطبيق الاشتراكية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، تبيّن أن النساء لم يتحررن بعد رغم تحرر المجتمع. هنا بدأت الأفكار الجديدة عن تحرير النساء والمؤتمرات العالمية الخاصة. «للأسف، نحن لم نول قضايا النساء الأهمية التي تستحق. كان هشام شرابي محقّاً حين قال إنّ تحرير النساء طريق لتحرير المجتمع. انطلاقاً من هذه الثابتة اشتغلت كثيراً على قضايا النساء وأصدرت العديد من الكتب والدراسات في هذا الخصوص».
في هذا الإطار، تحوّل نشاط فهمية شرف الدين، منذ عام 1995 حتى اليوم، إلى البحث والتنقيب في حقوق النساء وتاريخ الحركات النسائية. شرف الدين خبيرة لدى «الإسكوا» و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ـــــ UNDP». ومن خلال هاتين المنظمتين تعمل على بناء القدرات لدى النساء. كما تعمل على مشروع «أفكار» المشترك بين «وزارة التنمية الإدارية» و«الاتحاد الأوروبي»، والمخصص لإعادة تقييم الكتب المدرسية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة.
أصدرت شرف الدين كتابين عن المرأة «أصل واحد وصور كثيرة؛ ثقافة العنف ضد المرأة في لبنان» («الفارابي» ـــــ 2002)، و«آلام النساء وأحزانهن؛ العنف الزوجي في لبنان» («الفارابي» ـــــ 2008) وهو دراسة مع 300 زوجة معنفة. شرف الدين اليوم في صدد إعداد دراسة عن تعديل قانون الجنسية، من خلال مسح لعدد النساء اللبنانيات المتزوجات من أجانب مع مقابلات لرصد أثر هذا القانون على الأسر.


5 تواريخ

1943
الولادة في كفرتبنيت
(جنوب لبنان)

1975
حصدت المرتبة الأولى في مجلس الخدمة المدنية، وصارت مفتشة على المدارس الخاصة في لبنان

1978
صدور كتابها الأول «مبادئ أولية في الفلسفة»

1983
مديرة «معهد الإنماء العربي» لعشر سنوات

2009
تعدّ دراسة عن حقوق المرأة وتعديل قانون الجنسية في لبنان