كامل جابر
بعد عودته من رحلة علاج دامت ستّة أشهر في بروكسل، يطلق برهان علوية العنان لنفسه في الحديث عن الشكوك واليقين، عن الإحباطات والنجاحات، عن التجربة والذاكرة. على امتداد 35 عاماً في ميدان الفنّ السابع، وقّع هذا المخرج الطليعي أفلاماً وثائقيّة وروائية تعكس مشاغل الهويّة في مواجهة العصر، لكن أيضاً الفرد في مواجهة الجماعة. صاحب «بيروت اللقاء» صوّر الحرب الأهليّة كما لم يفعل أحد سواه، ووضع مع جوسلين صعب والراحلين مارون بغدادي ورندا الشهال، لبنات أساسيّة في صرح السينما اللبنانيّة البديلة. في بلدة أرنون المطلّة من قلعة الشقيف على الجنوب وفلسطين، ولد برهان علوية عام 1941. هناك أمضى طفولته الأولى، قبل أن يتنقّل مع عائلته من بلدة إلى أخرى، خلف والده الدركيّ. من أرنون إلى بيت الدين، جويا، البترون، عين الرمانة، الشياح، بعبدا... وصولاً إلى بيت جده لوالدته في الغندوريّة... حتى استقرّت العائلة في بيروت عام 1956. في «مدرسة عين الرمانة الرسمية»، أنهى دراسته الثانوية. وضع العائلة المادي دفعه إلى العمل في الليل، منذ 1959، مساعد مصور ثمّ كونترول فيديو في «تلفزيون لبنان». هكذا ساعد في مصروف البيت، وبقي يدرّس العلوم السياسية في الجامعة اللبنانيّة. في بيروت، أغرم بالبحر والسينما، لكنّه ظلَّ يفكر في المجهول خلف أفق هذا البحر. ذات يوم حزم حقيبته وسافر، ارتمى في أحضان هجرة عشوائية، حملته من الكونغو إلى مصر مروراً بأثيوبيا والسودان. لم يعد إلى لبنان حتى عام 1967.
ذلك العام «وقعت الحرب وانهزمنا». غادر علويّة إلى باريس من أجل الدراسة هذه المرة، فإذا به يعيش الثورة الطلابيّة التي اندلعت في أيار/ مايو 68. الشاب الباحث عن طريقه في لجّة من الأفكار، نزل إلى الشارع، متأثراً بجان بول سارتر وجيل دولوز وميشال فوكو وغيرهم. كانت نقطة تحوُّل في حياته. تصادفت مرحلة الفوران مع قيام الثورة الفلسطينية: «جمعنا الثورتين في وعينا؛ واقتنعت بالسينما أداة تغيير فعالة وسلاحاً إيديولوجياً»، وكل ذلك سيتجلّى لاحقاً في باكورته الروائيّة الطويلة «كفر قاسم» (1974). قبل هذا الفيلم الذي عُدّ مفترق طرق في السينما العربيّة البديلة، أنهى دراساته عام 1972 في بروكسل؛ وهناك أنجز عام 1971 أفلاماً قصيرة منها «ملصق ضدَّ ملصق»...
«كفر قاسم» عن المجزرة التي أسست للكيان الصهيوني، يسترجع اليوم هذا الفيلم بكثير من الحماسة: «استطاع أن يخاطب كل العالم، كثير من المشاهدين الأوروبيين كانوا متعاطفين مع إسرائيل، يتعاملون مع ما يجري من منظار مشوّه، ولا يفطنون إلى عدالة قضيتنا». تلك التجربة علّمته أنَّ السينما أكثر من أداة: «إنّها مثل القصيدة غاية بحدّ ذاتها... قضية الفيلم لغته ومن يخاطب. وفن السينما لغة لا حكاية أو موضوع. ما يحفظ قوّة الفيلم، استمراريته عبر الزمن، هو الإشكاليّة التي يطرحها، باللون والصورة والعمق واللغة...».
عندما اندلعت الحرب اللبنانية، أصيب برهان بإحباط كبير... كانت عائلته تسكن في الصفير (بيروت). «رأيت القصف بين الشياح وعين الرمانة وفهمت بسرعة المنحى الطائفي الطويل الأمد الذي ستأخذه الأحداث». نقل أهله إلى أرنون وغادر هو إلى أوروبا، ومن هناك انطلق لإنجاز فيلم «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978). الشريط يتناول تجربة المعماري المصري حسن فتحي في «البناء مع الشعب»: «تلك المدرسة الفكريّة والجماليّة ساعدتني على أن أفهم، علَّمتني من نحن وأين مكاننا». لاحقاً وضع سيناريو فيلم «الأمير» (1980)، ثمَّ أنجز فيلمه الروائي الطويل الثاني «بيروت اللقاء» (1982)، و«رسالة من زمن الحرب» (1985) و«رسالة من المنفى» (1990)... منذ ذلك اليوم لم يفارقه شبح الحرب الأهليّة وأسئلتها المعلّقة، وصولاً إلى أحدث أفلامه وأكثرها إيلاماً وضياعاً بعنوان «خلص» (2006). يرى أن الضياع العام هو سمة المرحلة في الفنّ كما في السياسة: «بتنا اليوم لا نملك مشروعاً، ولا نعرف حتّى «من نحن؟»... وما زلنا نتابع السقوط. عبد الناصر وحّد الناس للمرة الأولى في تاريخ العرب الحديث... لكنّ مشروعه لم يكن مقنعاً إلى النهاية. لقد أحيا شخصيتنا القوميّة هذا صحيح. ثم اتجه كلّ شيء نحو الفشل... حتّى السدّ العالي». هذا ما قاله في شريطه «أسوان، السد العالي» مطلع التسعينيات، وهي المرحلة التي أنجز فيها أيضاً «ما بعد حرب الخليج»... قبل تحرير بلدته أرنون في شباط (فبراير) 1999، عاد إلى بيروت مع ولديه داوود وزين. «شعرت بأنَّني في منفى هنا في لبنان، منفى أكثر شراسةً من ذلك الذي عرفته في فرنسا. اكتشفت أنَّ الحرب انتصرت، والطريقة التي انتهت بها كانت تزويراً لها... لم يتركونا نستفيد من الدروس. رحلة العودة من باريس إلى بيروت، كانت أطول وأبشع رحلة في حياتي»، وقد تركت بصماتها على فيلمه «إليك أينما تكون» (2001).
فيلمه الأخير «خلص» أبصر النور قبل عامين ونيّف، بعد سنوات من المعاناة والمتاعب المالية: «أنتجت معظم أفلامي على عاتقي. صنّاع السينما اللبنانية فدائيون، من مارون بغدادي إلى بهيج حجيج وجان شمعون ورندا الشهال وجوسلين صعب... اشتغلنا ونشتغل بدمنا وحياتنا». ويضيف: «الذين يضيّقون الخناق على السينما عندنا، يدركون تماماً قدرتها على فضحهم وتعريتهم. السينما مدرسة وطنيّة، وإنسانيّة أكثر من التلفزيون. لكن السوق ابتلع كلّ شيء، والناس يهربون نحو الأساطير أو الترفيه».
يتكلّم برهان كمن يشعر بضرورة القيام بجردة حساب، باسمه وباسم جيله: «عذَّبتني السينما لكنَّها علمتني الكثير». من تلك الدروس أن «600 مليون عربي عاجزون عن فرز حركة سينمائيّة مزدهرة، بسبب أشكال التخلف الاقتصادي والرقابات المختلفة». في 2008 أنجز فيلماً للأطفال بعنوان «مازن والنملة» لقناة «الجزيرة». اليوم، بعد عودته من رحلة العلاج يكرّمه «نادي لكلِّ الناس» مع صدور فيلم «خلص» على DVD.
في خضمِّ هذه التجربة، يخبرنا: «لم أزل على التزامي السياسي ومع قضية شعبي، وأيضاً ضدَّ الطائفية». ويضيف بهدوئه المعهود: «أرى أنّ أيّ شخص لم ينخرط ذات يوم في الأيديولوجيا كان أحمق، وأن من لم يخرج منها هو أكثر حماقةً».


5 تواريخ

1941
الولادة في أرنون (جنوب لبنان)

1972
تخرّج من الـ INSAS في بلجيكا، بعدما شارك في الثورة الطلابية في باريس. وبعد عامين أنجز «كفر قاسم» الذي حصد جائزة «التانيت» الذهبي في «أيّام قرطاج السينمائيّة» (تونس) وجوائز عالميّة أخرى

1999
عاد إلى بيروت من منفاه الباريسي. وبعد عامين روى تجربة العودة وغربته في الوطن من خلال «إليك أينما تكون»

2006
فيلمه الروائي «خلص» ذروة في مسيرة سينمائي لم يُشفَ من الحرب الأهليّة

2009
يكرّمه «نادي لكل الناس» في 18 و19 آب/ أغسطس. على البرنامج عرض خاص لفيلم «خلص» يليه توقيع الـ «دي في دي» ونقاش مع المخرج.