ناهض حتر*في 1948، كان نشيد عناصر ميليشيا «الهاغاناه» الانتصاري بالدارجة العربية: «إحنا شباب الهاغانا... صيّفنا بفلسطين وشرق الأردن مَشتانا». ولم يكن هذا الوعيد مجرّد صخب لاه لمسلحين منتصرين، بل استحضاراً لرؤية الزعيم الصهيوني الأكثر تطرّفاً، جابوتنسكي الذي كان، على حد تعبير شمعون بيريز، «يحلم بدولة يهودية على كل أراضي إسرائيل على ضفّتي نهر الأردن».
رئيس الدولة الإسرائيلية «الحمائمي» لا يعترض على الحلم نفسه، ولكن على واقعيته في نقاش بالكنيست (يديعوت أحرونوت، الثلاثاء 21 تموز 2009). لكن رئيس الكنيست، رئيوفين ريفلين، ردّ على بيريز بالقول إن تحقيق هذا الحلم أصبح اليوم أكثر واقعيّة من أيّ وقت مضى.
بيريز، في السياسة الإسرائيلية الحالية، هامشيّ، بينما يعبّر ريفلين عن خط الأكثرية، الخط الذي يسعى لتجاوز أزمة إسرائيل الناجمة عن انكماش دورها الإقليمي التقليدي، بالتصعيد الشامل على اتجاهات عدة: رفع وتيرة العنصرية ضد العرب في أراضي 1948، وتزخيم الاستيطان في الضفة، والرفض العدائي للبحث في مسألة الجولان، والاستعداد للحرب على لبنان، والتحريض المثابر لضرب إيران، ووسط كل ذلك استعادة شهوة التوسّع نحو الأردن. وهي شهوة تتحوّل، بصورة شيطانية، إلى مواقف رسمية وإعلامية، وحراك، ولعلها تتجسّد قريباً في حركة وسياسات.

على ضفّة النهر الشرقية، تعاني جنّة النيوليبرالية انشقاقاً أهلياً بين عصبيّتين ترى كل منهما الأخرى عدوّاً
الدولة العبرية المنفلتة الغرائز العدوانية، ملجومة، وإنْ نسبياً وفي حدود لا تضير مصالحها الأساسية، بتوجّهات إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، لـ«إنقاذ إسرائيل من نفسها»، وتمكينها من الاندراج والمشاركة في نظام السيطرة الإمبريالية في شرق أوسط خاضع سلمياً. وإذا كان من المفروغ منه أن قرار الحرب الإقليمية، بل الحروب المحلية الواسعة النطاق، ليس قراراً إسرائيلياً، فإنّ حركة اليمين الإسرائيلي في الميدان، في الإجراءات والسياسات الجزئية، هي حركة حرّة لا تقيّدها سوى قدرة الأطراف على المقاومة. هنا، سنلاحظ فوراً أنّ العدائيّة الصهيونيّة الملموسة تتّجه وتتصاعد نحو الجبهتين الأقلّ حصانة والأكثر ضعفاً: الجبهة الفلسطينية والجبهة الأردنية. وما دام ذلك يتوافق تماماً مع الحدود الأيديولوجية لـ«أرض إسرائيل»، يمكننا أن نتوقّع مسار التصعيد الإسرائيلي القائم
والآتي.
الفلسطينيّون يعيشون اليوم أسوأ وضع سياسي كان يمكن تصوّره: من الانقسام بل الانقسامات التي لا شفاء لها، إلى تحوّل سلطة رام الله إلى أداة أمنية أميركية ــــ إسرائيلية، فإلى تشرذم القوى الشعبية وهبوط الميول الكفاحية إلى درجة تذكّر بانهزامية
1948.
وعلى ضفّة النهر الشرقية، تعاني الدولة، شبه المفلسة التي تحوّلت إلى جنّة للنيوليبرالية والفساد، بينما تعاظمت اعتماديّتها على المساعدات الخارجية، انشقاقاً أهلياً بين عصبيّتين ترى كل منهما الأخرى عدوّاً، متجاهلتين العدوّ الأساسي وخططه لابتلاع فلسطين والأردن معاً: العصبية الأردنية تظنّ، واهمة، أنه يمكنها الحفاظ على كيان البلد وهويته واستقلاله من دون المواجهة مع إسرائيل، بينما تأمل العصبية الفلسطينية ــــ الأردنية بسذاجة، أن فرصتها حانت للحصول على الأردن كتعويض تاريخي، باستقلال عن مصير القضية الفلسطينية والتوسع الصهيوني.
لا يمكننا أن نعد النظام الأردني بالطبع نسخة من السلطة الفلسطينية. فهو يدير دولة لها تاريخ محلي وإنجازات، وأجهزة مدنية وعسكرية لها ارتباطات وثيقة بالمجتمع المحلي ومصالحه وميوله. ومع ذلك، يقف النظام الأردني (ونخبه) ملجوماً وحائراً وقلقاً وفاقداً للبوصلة في مواجهة التحديات. ولذلك، فهو يختار الصمت والتجاهل سواء إزاء الفشل الكارثي في الإدارة النيوليبرالية للاقتصاد الوطني، أو إزاء تعاظم مخاطر الانشقاق الأهلي الذي يعلن عن نفسه بضراوة غير مسبوقة (وآخر المشاهد المرعبة لذلك الانشقاق تظاهرة جمهور النادي الفيصلي العدائية بعد مباراة انتهت بالتعادل (!) مع نادي الوحدات). لكن الارتباك والصمت اللذين يوحيان بالضعف ويستجلبان المزيد من التطاول هما ذانك اللذان تواجه بهما عمّان الحراك العدائي الإسرائيلي.
على هذه الخلفية بالذات، يبدو ريفلين واقعياً في اعتقاده أن حلم جابوتنسكي قد أصبح اليوم قابلاً للتحقيق أكثر من أي وقت مضى. إنّه يرى عمّان عاجزة أمام التصعيد، ممّا يغريه بالمزيد من التطرّف. وهكذا، وفي أقل من شهرين، انتقل الكنيست من مناقشة «مشروع قانون» يقضي بإقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، إلى استعادة أطروحة التوسّع نحو «الضفة الشرقية من أرض إسرائيل». والأطروحتان لا تتناقضان: فالمشروع الإسرائيلي الداعي لإقامة دولة فلسطينية في الأردن لا يمكن تصوّره، من وجهة نظر صهيونية، إلا مشروعاً لإقامة سلطة فلسطينية محدودة، شرقيّ النهر، تحت السيادة الإسرائيلية. إنه مشروع إقامة إمبراطورية يهودية صغيرة في جنوبي بلاد الشام، تمنح للتجمّعات السكانية المحلية مناطق محصورة للحكم الذاتي
المحدود.
أوساط النظام الأردني ونخبه لا ترى، وربما هي عاجزة عن أن ترى، بسبب ثقافتها البراغماتية وثقتها المفرطة بالغرب، أنها تغرق وتُغرق البلد معها في مستنقع الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي. لكنها، مع ذلك، تتعلّق بقشة خطة أوباما للسلام. والمفارقة هي أنّه على افتراض نجاح تلك الخطة، فهي ليست بعيدة، إلا شكلياً، عن خطة اليمين الصهيوني في ما يتّصل بالأردن. فما يطمح إليه أوباما يخلق السياق الفعلي للتوسّع الإسرائيلي شرقي النهر، لكن من دون الفولكلور الأيديولوجي الصهيوني. فمن المفروغ منه أنّ خطة أوباما تبدأ من التوطين السياسي للاجئين حيث يقيمون. وهي تقول بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع تأخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل الحدودية والأمنية والاقتصادية والمائية، على أن تكون تحت سيادة فعلية مشتركة للأمن الأميركي ــــ الإسرائيلي. وفي الضفة الشرقية، حيث سينتهي التوطين السياسي بفلسطنة الأردن، فسيكون واضحاً أن أية صيغة للدولة الجديدة ستكون هي أيضاً محكومة بالاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، لا على الحدود فقط بل في الداخل، ومقيّدة بالتطبيع الشامل، المعزّز بالتنافس بين الفلسطينيين والأردنيين على استرضاء القوة الحاكمة الفعلية في المنطقة الممتدّة من البحر إلى بادية الشام.
مسار كهذا بدأ بالفعل منذ الآن. فالسياسة الرسمية الأردنية لا تثير الدهشة فقط بتجاهلها التطاولات الإسرائيلية، ولكنها تعالج تلك التطاولات بالمزيد من التطبيع مع إسرائيل، كمًّا ونوعاً. بل إن الدبلوماسية الأردنية تنشط لتشجيع العرب أيضاً على سلوك مشابه. وهي هنا تمتثل لرغبة إدارة أوباما بالمبادرة إلى إبداء النوايا الحسنة للإسرائيليين عبر تزخيم التطبيع والتنسيق مع تل أبيب (وحتى على حساب الشريك السلطوي الفلسطيني، كما هي الحال في التوافق الثنائي على مشروع ناقل الأحمر ــــ الميت الذي تشترط إسرائيل للموافقة عليه استملاك أراض محاذية للمشروع تقع في الضفة الغربية، ما أثار استنكار رام الله ورداً عجيباً من الوزير الأردني الذي اعتبر القضية «خلافاً سياسياً» بين الإسرائيليين والفلسطينيين يخرج عن دائرة اختصاصه كوزير للمياه!). وهكذا، تواجه عمان النوايا السيئة للصهاينة بالصمت السياسي من جهة، وبممارسة أعمق العلاقات الثنائية الممكنة بين جارين في الشرق
الأوسط.
ولعل هذا هو ما شجّع منظمة «صندوق أرض إسرائيل» على الإعلان الصريح عن خططها لاستعادة أملاك يهودية مدّعاة في الأردن وتملّك سواها. وهذا الإعلان ليس من قبيل العجرفة فقط: إنه يرمي إلى خلق المزيد من الضغوط الأميركية على عمان لاعتبار التملّك العقاري اليهودي في البلاد جزءاً من التطبيع المطلوب أميركياً.
القانون الأردني لا يعطي لمواطني الدول التي لا تسمح للأردنيين بشراء عقارات فيها، حقاً مماثلاً. وهذا هو العائق القانوني أمام السماح للإسرائيليين بامتلاك عقارات في الأردن. وهو ما حدا بالمنظمة المذكورة للقول إنها تريد تملّك العقارات في الأردن بوساطة يهود من جنسيات أخرى. وهي، على كل حال، مسألة شكلية ما دام هناك الكثير من الإسرائيليين المزدوجي الجنسية. كما يمكن تجاوز ضرورة موافقة مجلس الوزراء الأردني على بيوعات تزيد على العشرة دونمات لغير الأردنيين من خلال صيغة مركبة من وكلاء من عرب الـ48 ووكلاء أردنيين من أقاربهم أو شركائهم. أعني أن الأطر القانونية يمكن التحايل عليها فعلاً إذا لم يكن هنالك موقف سياسي وأمني حازم لمنع التسلل العقاري اليهودي إلى الأردن. وبالنسبة لي، فإنني أشارك أولئك الذين يشككون بقدرة عمان على مواجهة الضغوط والإغراءات في هذا المجال. ولا أتحدث هنا عن أوساط النظام فحسب، بل أيضاً، وبالقدر نفسه، عن النخب الكمبرادورية الأردنية التي تفتقر كلياً لأية التزامات وطنية.
في لقاءات خاصة، يشكو الوزير الأردني خالد طوقان، المكلّف بملف إنشاء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، من الضغوط والتدخلات التخريبية الإسرائيلية التي تواجهه أينما أدار وجهه، بينما يشكو مزارعو الأغوار الأردنية من الحرائق الغامضة التي تهبّ من غربي النهر وتأتي على مزارعهم وأشجارهم، ومن إغراق الأسواق بالمنتجات الزراعية للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة، التي تُباع في الأردن.
تقمع الحكومة الأردنية، على خلاف سياساتها السابقة، المحتجين على التطبيع مع إسرائيل، بالقوة المفرطة. لكن، بالمقابل، فإن حركة مقاومة التطبيع تتراجع شعبياً وتتآكل بينما يطفو الانقسام الأهلي على السطح، حاصراً الحياة السياسية كلها بين مزدوجين.
سياسيو نادي الحكم يعتبرون أن الانتظار هو أفضل أسلوب لمواجهة الضغوط، ويأملون خطة من طرف إدارة أوباما تحفظ الحد الأدنى من أمن الأردن، وتعويضات مالية تسعف الدولة من الإفلاس، وتمكّن سوقاً مزدهرة من استيعاب الانشقاق الأهلي. وفي الأثناء يمارسون الصمت والخضوع المرن للضغوط الأميركية والإسرائيلية.
بعد ذلك وسواه، مما لا تستطيع هذه المساحة استيعابه من المظاهر والتوجهات والمخاطر، يبرز السؤال: هل عاد من الممكن إنقاذ الأردن من البراثن الصهيونية؟
ميزان القوى على الأرض يسمح، ربما أكثر من أي وقت مضى، بمواجهة جدية مع إسرائيل. لكن قيادة هذه المواجهة ومعالجة التحديات القائمة، ليستا ممكنتين بواسطة نخب الحكم الحالية التي تعتورها كل أشكال الذاتية والفساد وضيق الأفق وضعف الرؤية والإرادة السياسية والعجز البنيوي عن إدراك المشهد الاستراتيجي. ولا يعود أمام الأردن من فرصة لإدارة المواجهة مع التحديات الكبرى، سوى الانتقال العاجل إلى بديل ديموقراطي جذري يقوم على العودة إلى دستور 1952 وإجراء انتخابات حرة من التدخلات الأمنية والمال السياسي، بإشراف هيئة وطنية مستقلة، وعلى أساس النسبية في الدائرة / المحافظة، بما يؤدي إلى تكوين نخب برلمانية وحكومية جديدة لها وزن تمثيلي وقدرات سياسية وإدارية يتوافر عليها المجتمع الأردني فعلاً، لكنها مبعدة من المشاركة.
برلمان يمثل المجتمع الأردني واتجاهاته، وحكومة برلمانية كاملة الصلاحيات الدستورية، واتخاذ قرارات كبرى تأخذ بالاعتبار، في الآن نفسه، المصالح الاستراتيجية للدولة الأردنية والقيود التي يفرضها الواقع العياني وموازين القوى الفعلية.
* كاتب وصحافي أردني