وسام الحاج *تجربة جديدة، تضاف إلى غيرها من المحاولات المشروعة التي تسعى إلى كبح جماح مسلسل التراجع المتواصل على مدار سنوات طويلة. في المقابل، يبقى التساؤل المثار عن المسار السياسي الذي يطرحه هذا التيار برسم المجهول، إذ لا يقدم ما صدر عنه حتى الآن ما يمكّننا من تمييز الإضافة السياسية والفكرية التي يأتي بها، وهي المعضلة الأهم أمام كل محاولات اليسار للتوحد، والتي كانت أيضاً المحرك الأساس للخلافات الداخلية في كل فصيل على حدة.
تؤشر التجارب السابقة بوضوح إلى أن الخلافات الأساسية بين أطر هذا اليسار مرتبطة جزئياً بتاريخ التفاعلات الداخلية القائمة على التنافس الحزبي (والشخصي أحياناً) بين أقطابه، كما هي الحال بين الجبهتين الديموقراطية والشعبية. وأما الخلاف الأعقد والأهم، فهو مرتبط أساساً بالموقف السياسي، وخصوصاً الموقف من «فتح» وسياستها. يعود هذا الخلاف إلى تراث طويل من التباين في وجهات النظر، يمتد من موقف الشيوعيين الفلسطينيين المؤيد لقرار التقسيم، مروراً بالتباين بين الجبهتين الشعبية والديموقراطية منذ انفصالهما، وارتباطاً بمواقف «الديموقراطية» البراغماتية، والأقرب إلى «فتح»، منذ برنامج النقاط العشر في سبعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا.
من المجحف ألا نذكر أكثر من مؤشر إيجابي في هذا الاتجاه. فحزب الشعب مثلاً، منذ صعود بسام الصالحي إلى الأمانة العامة، حقق تحولاً كبيراً في مواقفه السياسية ونشاطه الجماهيري، بما يمثّل علامة فارقة. كما أدّى الانقسام الداخلي دوراً مهمّاً في تسريع وتيرة التفاعل بشأن دور اليسار، إذ التفت الكثيرون إلى قوى اليسار كبديل افتراضي، واستعادت جزئياً بعض رصيد جماهيري ارتبط بعدم انغماسها في قتال الأشقاء، وخطابها الوحدوي.
كوّنت الجبهتان وحزب الشعب ما سُمي جبهة اليسار كاستثمار لهذه الحالة، ولتتمايز عن «فتح» التي حاولت استخدام لافتة منظمة التحرير لتفادي قمع «حماس» وحماية وجودها في غزة، مع تحميل الآخرين لخطابها.
الدور الحالي لجبهة اليسار لا يتخطى كونها جسماً تنسيقياً للأحزاب الثلاثة التي كانت تطمح إلى تحويلها إلى نواة لمشروع توحدها. لكن هذا الاتجاه سرعان ما واجه الخلاف السياسي الذي فجّره انضمام الجبهة الديموقراطية إلى حكومة فياض في رام الله، التي يفترض أن جبهة اليسار تعارض خياراتها السياسية والأمنية. وضعٌ يعيد السؤال إلى المربع الأول: هل سيتمكن اليسار من التوحد دون سقف واضح لخياراته السياسية؟
«الديموقراطية» كما قلنا سابقاً، ما زالت خياراتها السياسية تتجه إلى البراغماتية. والجبهة الشعبية، التي تأخذ على «الديموقراطية» مواقفها السياسية، هي نفسها ما زالت تعاني معضلة التباس الموقف، وتناقضه، بين «أخلاقيتها» السياسية في التعامل مع القضايا الوطنية في أدبياتها، والقدرة على اتخاذ القرارات والسلوك السياسي اليومي الذي يعبر عن هذه الرؤية. فقد تعرض قادة الجبهة للاعتقال من جانب سلطة «فتح»، وجرى التآمر على أمينها العام أحمد سعدات واختطافه من جانب أمن السلطة، لينتهي به المقام في سجون الاحتلال، لكنها ما زالت لا تجد غضاضة في استمرار عضويتها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. مبررها لهذا الحضور هو تأكيدها على شرعية المنظمة كوطن معنوي للفلسطينيين، وأنها تطالب بإصلاح هذا الإنجاز الفلسطيني وتمثيل الكل الفلسطيني فيه بطريقة ديموقراطية. لكن إن كانت المنظمة هي الوطن المعنوي للفلسطينيين، وهذا صحيح، فإن اللجنة التنفيذية هي الحكومة الفاسدة لهذا الوطن ويجب الانسحاب منها، أو في أسوأ الأحوال، يجب الحد من ظهور نائب الأمين العام للجبهة مرافقاً للرئيس أو ناطقاً باسمه، حتى لا تختلط الصورة على الجمهور على الأقل.
تشير مصادر من الأحزاب المعنية إلى أن هيئات قيادية للجبهتين تدرس الآن الخيارات المطروحة في هذا السياق: إما إنشاء حزب يساري موحد بهوية ماركسية، يضم الجبهتين وحزب الشعب، وإما جسم أكثر توسعاً وحرية في خطابه، يضم أطرافاً أخرى من منظمة التحرير لا تمثل جماهيرياً أي ثقل حقيقي، وسياسياً لا تمثل إلا إرادة «فتح» التي تمنحها الشرعية والقدرة على البقاء من خلال تمثيلها في الهيئات القيادية للمنظمة، حفاظاً على تعددية بروتوكولية لا تعبّر فعلياً عن تمايز في الموقف أو عن انعكاس لحالة شعبية.
مصير التيار الوطني الديموقراطي، وجبهة اليسار، وكل محاولة أو مبادرة في هذا السياق، سيبقى في النهاية مرهوناً بتعبيره عن الخروج باليسار عن نسق سياسي ما زال بعيداً كل البعد عن أن يخاطب الجمهور الفلسطيني الذي أثبتت التجربة أن خياراته مرتبطة بمشروع التحرر الوطني (كيف؟ وبأي أفق؟ وحول أي استراتيجيا...)، والشفافية، ومكافحة الفساد. من يقدم الخطاب، والسلوك، والرؤية القادرة على إقناع الجمهور بأنه يمثل هذا الطموح، ستكون بالتأكيد حصته في أي انتخابات، ومهما كان نظامها مجحفاً، أكثر من خمسة مقاعد!
* صحافي فلسطيني