في العالم الافتراضي لا تلبث أن تضمحل الأسماء المستعارة ليصبح أصحابها أصدقاء، يدخلونه من باب «القضية» لكنهم سرعان ما يصلون إلى «المطبخ»
ملاك وليد خالد
من «مدن»، أحد المنتديات المحجوبة في اكثر من بلد عربي نظراً لسقف الحريات العالي و«الخطير» فيه، عرفت «ميم» عن مدونة الزميل «تشي غيفارا» المقيم في الأرض المحتلة.
تلك الصدفة قادتها إلى عالم البلوغز أو المدونات التي صارت مساحة شخصية يكون فيها كل فرد ما يريده. في ذلك العالم الموازي، تقودك كل كبسة زر إلى شخص جديد كامل الآراء والمواقف والتفاصيل، قد يكون يرسم، يصور، يكتب، يدرج الأغاني أو التعليقات على كتب أو أفلام.
الاهتمامات المشتركة تصير فيصلاً في اختيار المدونات التي تضع وصلتها على صفحة مدونتك. من «الباب الآخر» لـ«أحمر» لـ«نشاز» لـ«واحد افتراضي» لـ«المفقود» حتى «زغرودة»، صار العالم الافتراضي أكثر واقعية في عالم «ميم»، وخصوصاً أنك إذا أردت معرفة الشخص أكثر، يكفي أن تتبادل معه العنوان البريدي أو «المسنجر».
وعلى «المسنجر» تختلف الأمور. فهنا الحديث ثنائي على الأغلب. حتى الاسم، يمكن تغييره في شبابيك الأحاديث. هناك، «طُبخت» فكرة لقاء يجمع المهتمّين في مكان يمكن جميعهم الوصول إليه، فكانت عمان عام 2007. يومها، صارت للأحاديث نكهتها الشخصية. ففي الحضور، يصبح للحروف أصحاب، ناس حقيقيون من ضحكات وروائح ودموع وهدايا بالغة الرمزية وتُنسج صداقات لا تزال مستمرة إلى اليوم.
كان هايد بارك حقيقياً، وكان الأكثر حضوراً فيه الغائبون لأسباب جيوبوليتيكية لعينة. فهناك «الشيخ زرياب» القاطن في سجن غزة مثلاً، وهناك الممنوعون من السفر لأسباب أمنية. بعد ذلك اللقاء، بدأ الاستخدام الباذخ للفايسبوك.
اليوم في كمبيوترها، تحمل «ميم» ذاكرة رقمية تعجّ بلحظات لا تملك من مقومات الواقع شيئاً، لكنها حقيقية. فالحديث اليومي مع صديقتها المقدسية التي لم تلتقها يوماً أصبح روتيناً لا بد منه، وإلا لا يكتمل اليوم. والنقاش مع بقية من تعرفهم في الواقع أو لا يزالون على ذمّة المُفترض يضيفان إلى حياتها الكثير مما قد لا تجده في محيطها الواقعي من البشر.
جميعهم، أهل هذه الدائرة التي تظل تتوسع يومياً، تابعوا تجهيزات عرس محمد على النت، كذلك باركوا وهللوا لخبر عثور خطيبين من بينهم على بيت الزوجية.
وكما في الفرح، ففي الحزن واللحظات الصعبة هم هناك، أمام شاشة يكفي أن تكبس على أزرارها لتجدهم، داعمين بالكلمة وبإرسال صورة أو رابط لأغنية تغيّر مزاجك. تحضر القضايا والأحداث الكبرى بقوة بينهم، لكن الأمور الأكثر حميمية والتفاصيل الدقيقة في يوميات حياتهم صارت تأخذ حيّزاً أكبر من الحكي: المزاج، المشاريع اليومية، خطط السهر والسفر والنشاطات، الرياضة، توقيف التدخين، حتى وصفات الطبخ.
ثمة من يقول إن العالم الافتراضي غير حقيقي ويمكن من خلاله بثّ ما لا يُحَدّ من الأكاذيب (وهل يخلو منها الواقع مثلاً؟)، لكن بتتبّع الخيوط التي قادت الأشخاص المذكورين أعلاه لعيش حياتهم عبر التكنولوجيا واختراعات عصر الاتصال، يمكن المرء أن يرى كيف يمكن هذا العالم الافتراضي أن يكون مساحة قريبة وحميمة وخاصة جداً، تكمل الحياة ولا تتوازى معها لتصبح حياتين.