غيّر الكشف بالجملة عن عملاء إسرائيل أخيراً طريقة استعادة الذكرى الثالثة لعدوان تموز في الشكل والمضمون. فقد تبيّن تورّط بعضهم في التسبّب بالمجازر وبالقصف على المدنيين، حيث أدّوا دور عيون العدو وآذانه، ما يجعل الجنوبيين وأهالي الشهداء والجرحى خصوصاً، يطالبون بإعادة النظر في أسلوب تعاطي الدولة والمقاومة مع العملاء، وإلا .. «فليتركوها علينا» شهداء تموز: لا عفو والله عما مضىالجنوب ــ آمال خليل
لذكرى عدوان تموز هذا العام في الحلوسية (قضاء صور) وقع مختلف أكثر مرارة وفرحاً في آن. فالبلدة قبل 4 أشهر فقط، استردّت حقها بالكامل، واسترجعت ما استدانه منها العدوان: رفات محمد مونس وابنه حسان عادا أخيراً إلى ثراها بعد غياب قسري تحت أنقاض مجمع الإمام الحسن في الضاحية الجنوبية الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية في اليوم الأخير من الحرب في 13 آب. فبعد فقدان أثر الشهيدين بين الركام، عثر بعض عمال البناء على رفاتهما على عمق أكثر من 20 متراً أثناء قيامهم بالحفر. الرفات كان عالقاً في سيارة، إما كانا يستقلانها أو دفعها القصف معهما إلى الحفرة التي خلفها. وبعد إجراء فحص الحمض النووي، تبيّن أنه يعود للشهيدين اللذين توسّدا قبريهما بعد طول انتظار في جبانة البلدة، وهما قبران كان قد أودع فيهما الأهل بعضاً من آثارهما بديلاً مؤقتاً.
«الله يطمّنكم طمّنتونا»، كانت أول ما نطق به نعمة مونس لدى تلقّيه نبأ العثور على رفات شقيقه وابنه، حينها فقط قرر أن يفكّ حداده. لكنّ فرحته بالعثور على رفاتهما، لم تدم طويلاً بعد كشف تحقيقات الأجهزة الأمنية أن بعض العملاء الجدد الذين أوقفوا في الأشهر الماضية كانت لهم اليد الطولى في عدد من مجازر العدوان، ومنها مجزرة مجمع الإمام الحسن التي سقط فيها أكثر من خمسين شهيداً آخرين.
«ماذا نفعل؟»، لا تنفك والدة الشهيد فاطمة ناصر تتساءل مذهولة. فالسيدة السبعينية هالها أن «جنوبياً مثلنا» (المتهم ناصر ن.) كان قائداً في أحد أحزاب المقاومة في بلدته القريبة من الحلوسية، يصبح عميلاً ويتورّط في قتل ابنها وعشرات الأبرياء غيره. الأم الثكلى تتساءل مصدومة: «بأي ثمن قد باعنا هذا؟ هل كان يعرفنا من قبل؟ هل سبّبنا له الأذى ويسترد حقه الآن منا بمساعدة العدو الإسرائيلي؟». تستفيض حاملة المرض والحزن، بأسئلة تعرف أجوبتها. لكنّها تتأنّى قبل الوصول إلى السؤال الأصعب: «من يستردّ حقنا منه؟ المقاومة كما تساهلت في تحرير عام 2000 مع العملاء، أم الدولة التي أصدرت بحقهم أحكاماً مخففة؟».
عيناها المغرورقتان بالدموع تحسمان «لا عفا الله عما مضى»، تقول بحزم، وتضيف أنها مستعدة «لأخذ حقّي بيدي إذا كانت للدولة والمقاومة حسابات أخرى ترتبط بما وصفوه بالحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع الفتنة». ترى الأم الثكلى والأرملة أن «إعدام العملاء هو ما يحمي الوطن»، وتجزم بأنه لو اتخذت الدولة بحقهم الأحكام المناسبة بعد التحرير، «لما فرّخوا من جديد وتكاثروا كالديدان بيننا».
في المقابل، تتعاظم مخاوف إبراهيم حمود من أن تلقى عائلة مونس ما يلقاه هو منذ التحرير، «الذي ساوى أحياناً كثيرة بين المقاومة والعميل». فالمقاوم المخضرم في صفوف المقاومة الوطنية والأسير المحرر من معتقل الخيام حيث احتجز لخمس سنوات، بات عليه أن يجاور العملاء السابقين ويلتقي بهم في بلدته كفركلا وأينما كان، من دون أن يوجّه إليهم كلمة واحدة، الأمر الذي جعله يفضل اختصار تحركاته في المحيط والتزام بيته الذي يحدّه من الشرق مستعمرة المطلّة ومن الغرب مبنى يملكه «أحد الذين ارتكبوا الفظائع والأعمال الوحشية في الناس وكرّمته الدولة بالحكم عليه لخمس سنوات بعد عودته من الأراضي المحتلة».
الجبن أو الخوف ليسا سبب عدم تمكّن حمود من أخذ حقه من هؤلاء العملاء الذين اقتادوه مقيّداً ومعصوب الأعين في صندوق سيارة إلى المعتقل، وعذبوه ولاحقوا عائلته وسجنوا شقيقه لأربعة عشر عاماً وقتلوا رفاقه. بل السبب هو ما حسمت به الأجهزة الأمنية والأحزاب النافذة في المنطقة للناس: السلم الأهلي وترك عقاب العملاء إلى القضاء. عتب حمود على الأحزاب أكثر من عتبه على القضاء الذي أصدر أحكاماً متساهلة بحقهم، جعلتهم يعودون إلى قراهم كأنهم أبطال. فهو يؤكد أن الكثير منهم انخرطوا في بعض أحزاب المقاومة التي توفّر غطاءً أمنياً واجتماعياً لبعضهم.
اكتشاف عدد كبير من العملاء أخيراً وتبيان أن معظمهم مخضرم في العمالة لإسرائيل أثار مجدداً الحديث عن واقع العملاء «التائبين» أو المتريّثين في العودة من فلسطين المحتلة. وعلى امتداد القرى الجنوبية المحررة، تتكرر الحكايا عن سجلات الجرائم الحافلة للعملاء السابقين الذين يسكنون فيها جنباً إلى جنب مع ضحاياهم منذ ما بعد التحرير. تسمع منهم: هذا محل العميل الفلاني، وذاك قصر آخر، ورئيس البلدية هذا أو المسؤول المحلّي ذاك أو عرّيف المنابر كانوا عملاء. لكن نسبة الغفران تتفاوت من بلدة إلى أخرى بحسب تجربتها خلال الاحتلال وبعده. وإذ يصعب على بلدة خدم غالبية سكانها في جيش لحد، وبنوا علاقات طيبة أو محايدة مع الإسرائيليين ودخلوا إلى الأراضي المحتلة للعمل، أن يأخذوا موقفاً معادياً من العمالة، مبرّرين ما فعلوه «بأن الموجود يسود»، لا يمكن لبلدة أخرى مثل عيتا الشعب تفهّم أن غياب الدولة هو ما دفع الناس للعمالة أو للهروب مع الإسرائيليين. يقول محمد سرور إن «عيتا وإن كان أحمد شبلي أحد أبنائها أحد قادة العملاء الذي حكم عليه القضاء اللبناني بالإعدام أخيراً ولا يزال يعيش في فلسطين المحتلة، إلا أن الآخرين فضّلوا الأسر والإبعاد والقتل والفقر على أن يرضخوا لإرهاب العملاء والإسرائيليين ويتعاملوا معهم».
من ناحية أخرى، فإن الكثير من الجنوبيين يرفضون نظرية «الأقليات المستضعفة» ومبرر البعض للتعامل بحجة طلب الحماية. في هذا الإطار، يدحض التوزيع الطائفي للعملاء «كليشيه» كونهم خصوصاً من المسيحيين. فالعدد الأكبر من العملاء، والديموغرافيا تحكم، هم من الشيعة الذين يمثّلون الأغلبية السكانية في الجنوب.