شهران مرّا على تكليف النائب سعد الدين الحريري تأليف الحكومة. طوال ذلك الوقت الأكثر من طويل، لكون استشارات الرئيس السابق فؤاد السنيورة على تعقيداتها لم تتعدَّ 52 يوماً، لم يُفلح الرئيس المكلّف في تبريد قلوب مواطنين كثيرين ينتظرون «الفرج» الحكومي بما يعنيه ذلك من استقرار للبلد، مبدئياً. غير أن من ينتظرون الفرج ليسوا اللبنانيين كافة، إذ ثمّة فئة غير آبهة، من الأساس، بذلك كله
راجانا حمية
طال الوقت. لا حس ولا خبر. ثمة يأس والنهاية لا تبدو قريبة، استشارات رئيس الحكومة العتيد تدور في حلقة مفرغة. تضيق فسحة الأمل برؤية نهاية النفق ويتربص الخوف المتزايد، تزامناً مع التأخير، بيوميات مواطنين يؤرّقهم استمرار حكومة «تصريف الأرواح»، كما وصفها بعضهم لـ«الأخبار»، لكونها غير قادرة بطبيعتها على اتخاذ أية قرارات جديدة.
شهران مرّا على التكليف. في وقت يستمر فيه الوضع المعيشي في التعفّن. الخائفون كثر، لكنهم ليسوا الجميع. ثمة من ارتأى أن ينأى بنفسه عن «مشاكل السياسيين» التي رأى أن «لا علاقة لها بنا»، غير آبه بحكومة لم تجد طريقها إلى النور «بتتألّف ما بتتألّف مش فارقة معاي».
على عكس واقع الشارع اللبناني المفروز ما بين أكثرية وأقلّية، تبدو الإجابة عن سؤال مدى تأثر المواطنين بتأخر هذا التأليف، ومن خلال العينة العشوائية التي اخترناها، خارج هذا التصنيف بعض الشيء. حيث ظهر أن عدد الخائفين من عدم التأليف موازٍ تقريباً لغير المبالين بذلك.
لكن، فيمَ سيؤثر تأليف الحكومة في المواطنين؟ «لا شيء مبدئياً»، يقول منير الصغير، العامل في إحدى المؤسسات التجاريّة. يعمل الشاب «من الفجر إلى النجر» براتب شهري يتجاوز بقليل الحد الأدنى الجديد للأجور، إذا ما أضفنا إليه بدل المواصلات وساعات «الأوفر تايم» الإضافية على ... الـ12 ساعة عمل إلزامي.
لا تختلف نهارات منير بعضها عن بعض: يبدأ عمله عند الثامنة صباحاً، عندما ينتصف النهار، يترك مكانه، للاستراحة المعتادة مختلياً بنفسه ساعة من الزمن، للتفكير في كل الهموم التي تشغله. هناك، يدخل عالماً آخر، يكثر أشخاصه. والداه من جهة، والفتاة التي كان يُفترض به أن يخطبها «لو كان المعاش بيكفّي»، ونفسه، هو العاجز عن تلبية حاجياته من «يوميته» الضئيلة. يختصر وضعه لنا «معاش لن يتغير ويومية بطلع آخر النهار أنا وهية، راس براس أو مكسور». يضيف «وبترجعوا تسألوني أيمتى بتتألّف الحكومة؟ وما تتألّف شو يعني؟ شو طالعلي؟».
البعض يطالب بتأليف الحكومة لخوفه من عودة التوترات الأمنية
على مقربة من المكان، يجلس عمر طحان على كرسي في ساحة المصرف الذي يعمل فيه حارساً، يرى عمر نفسه (25 عاماً) أشبه بالروبوت، أي الرجل الآلي الذي برمجه «صانعوه» فقط للرد على تحيّة الزبائن الداخلين إلى المصرف. ست ساعات من الصمت يقضيها متنقّلاً بين المصرف والساحة الخارجية. وعندما تتعب قدماه، يجلس على كرسيّه، مسلياً نفسه بالنظر إلى العابرين. يُخرج سؤالنا الشاب من دوّامة الروتين الفارغ الذي تفرضه طبيعة عمله. رأيه في التأخّر في تأليف الحكومة؟ يضحك للسؤال. و«يفلت» على الكلام، كأنّه لم يتكلّم منذ فترة طويلة. يبدأ تحليلاته: «أول شي ما بفتكر بتتألّف حكومة لأن الوضع الإقليمي لا يسمح. فأميركا غير راضية عن الاتفاق الذي توصلوا إليه، وكذلك سوريا (..)». يستطرد كثيراً، ثم يعود إلى موضوع التأخير «شوفي أنا من الآخر مش فارقة معي أبداً! بوزراء وبلاهم عايش، ما عم يفيدوني بشي». وإذا تألّفت؟ «بيرجع نفس الطقم». ويسأل: «متذكرة شي حكومة منيحة من وقت ما خلقتي؟».
يقترب أحد الزبائن. يبدو أنه سمع طرفاً من الحديث، فقرر التدخل «ليش إذا ألّفوها رح يشيلوا الزير من البير؟» يعرّف عن نفسه: «محمد خليفة»، ويعود إلى النقاش «وك برا إذا واحد وصل على السلطة بيزعل، إلا بلبنان بينبسط، ليه؟». يسأل، وقبل أن تأتيه الإجابه من محاوريه، يجيب: «لأنه عندنا، عندما يصل للكرسي، بيبلش أكل وما بيشبع، بيكمل علينا». لهذا السبب، منذ سنوات طويلة، لم يعد خليفة يسأل عن أخبار الحكومة. تألّفت أو لم تتألّف، لن تتغير حاله، سيبقى حمّالاً، وبالطبع المعاش، إذا جازت تسميته كذلك، هو هو. الوضع هو نفسه بالنسبة إلى طحان وربة المنزل إحسان المصري، التي تأمل تأليف الحكومة، عكس «زميليها»، أما لماذا؟ «لنريّح راسنا، وبركي بتصير الحكومة تتطلّع أكثر على وضعنا المعيشي».
تبدو عبارة «نريّح راسنا» أقصى أحلام الكثيرين. وإن كان البعض يطالب بتأليف الحكومة لأنه خائف من عودة التوترات الأمنية. لكن، مقابل فئة «لنريح راسنا»، ثمة من يعلق آمالاً جدية على تأليف الحكومة. فشفيقة الجمال تعوّل على «مساعي الرئيس الحريري، بإذن الله، حتى تقوم حكومته بتنظيم المياه والكهرباء في بيوتنا». وتستطرد السيدة فتقول «إنو مضطرة انتظر المي والكهربا ليجوا لحتى غسّل الثياب، وإذا ما اجوا مع بعض بغسل على إيدي». تنتقل من الكهرباء والمياه إلى المواد الغذائية التي تشتعل أسعارها يوماً بعد يوم «بما إنو ما في رقابة». وتقول: «إذا بدي جيب ربطة بقدونس، بآخد مصاري زيادة، بركي طلع سعرها من امبارح؟ بيجرصونا».
كهرباء. مياه. بنزين. كل هذا يطلبه ويتوقعه مصطفى الجردي من الحكومة العتيدة «شوفي، الكهربا قليل ما بتجي، يعني عم نقضي معظم وقتنا من دونها، لذلك نحتاج إلى المازوت من أجل تشغيل المولد، لأننا غير قادرين على الاشتراك في مولد الحي، وغير قادرين على إجبار الدولة على دفع دين الكهرباء حتى تقدر تشتري فيول، شو الحل؟». يجيب نفسه «يألفوها». لكن، ماذا لو لم تتألف فعلاً؟ الجواب أن الجردي لن يشغّل المولد في وقت قريب يتمناه عاجلاً، ما دامت حكومة تصريف الأعمال غير قادرة على اتخاذ قرار بخفض سعر المازوت، هذا لو كان في نيتها أصلاً. أما المواطنون الباقون، فيتوقعون السيناريو التالي: سيبقى البنزين على حاله: مرتفعاً. والمواد الغذائيّة ستشتعل أسعارها أكثر، وخصوصاً أن شهر الصوم على الأبواب، وهو شهر سيكون مناسباً ليختبر اللبنانيون، لكون الكهرباء ستبقى على تقنينها، الإفطار الرومانسي... على العتم.