نهلة الشهال«ولو! أنتِ تنزلين إلى دكان المختار بنفسك!» استنكر صديق قديم وعزيز... ووجيه متنفذ. وحين علم أني اصطحبت معي الصبيتين، اشتاط غيظاً بصدق جعلني أشعر للحظة إني حقاً ارتكبت إثماً: «أنت بتبهدلي حالك لأنه بدك تثبتي إنك شعبية، اصطفلي! ما ذنب فرات وعدن (لم أشأ أن يكون اسماهما أقل من ذلك! ولكني، في لبنان دون سواه، أمضي وقتي شارحة أن اللفظين واردان في كل الكتب السماوية، وأنهما استحضار للـ«جنة» وليسا أسماء أماكن محددة اخترتها لأسباب نضالية كما يظنون!!). قلت إني أريدهما أن تريا إيقاع البلد وليس فحسب واجهته المعدة للسياحة والدعاية. اعتبرها «تفلسفاً» في غير محله. ولكنه، بالأمس، حين علم أني ما زلت أنتظر بطاقات هوياتنا منذ شباط الفائت، وأن المختار يدعونا للعودة إليه وإعادة إجراء المعاملة من أساسها، لأن واحدة مرفوضة مع كلمة تقول «البصمة»، والاثنتين مختفيتان لا يعلم من أمرهما شيء، تدخل بصرامة... وقرر جازماً بأني غير معقولة لأني أريد أن «أشوف آخرتها بنفسي، فماذا يفعل عموم الناس الذين ليس لديهم صديق مثلك؟». وبعدما سخر مني لأني أعتبر نفسي مسؤولة عن «الأمة»، وأمام عنادي، قال مجدداً تلك الكلمة السحرية الذي يعرف اللبنانيون وحدهم سرها: «اصطفلي!». وهو كان متأكداً من أني سأخيب. ثم أردف بخبث أننا حائزات الباسبور الفرنسي، أي إنه بإمكاني أنا أن أعاند وألعب دور «المبدئية»، ولكن موقفي لا يصلح لعموم الناس الذين يحتاجون «حقاً» لتلك الوثيقة. وصديقي من 14 آذار، ولا يؤمن بالمقاومة ولا بالممانعة، وهو وجد لموقفي تفسيراً آخر، يندرج في باب المزاج والتسلية، بل الترف!
المشكلة أن المختار لا يعرف شيئاً، ويقول واصفاً الحال في وزارة الداخلية أو مديرية النفوس (لست متأكدة من تعيينه الدقيق لمرجع تلك المعاملات) إنها «فوضى عظيمة»، وحين ألح لمعرفة المرجع يقول كلمة السر الأخرى في لبنان: «بيروت»! كنت أرى طرابلس، مدينتي التي ما زلت أحب، تندثر، تنام بعد الظهر ثم تنام مع الدجاج ليلاً ثم تستفيق متأخرة، ويعلو الغبار واجهات محالها صغيرة وكبيرة، ولا من لديه همة أو دافع لإزالتها... كنت أراها تنطفئ وقد اختنقت من الإهمال والفاقة، حتى استبطن أهلها هذه الحال وشابهوها، ولكني ما زلت مصرة على تمضية الإجازات فيها...رغم تململ فرات وعدن وبدء ما أراه تمرداً وشيكاً.
والمشكلة أن المختار وعدني بـ«إكرامي في السعر» الذي سأدفعه مجدداً للمعاملة المكررة. «ماذا! حين ترفض معاملة أو تضيع، نعيد دفع الرسوم؟»، فيبدأ بسرد أمثلة عمن دفع ثلاث وأربع مرات، مورداً أسماء عائلات أعرفها، مضيفاً (لأن الوقت في طرابلس متوافر بكثرة)، تفاصيل عن الاسم الكامل لرب العائلة ومهنته وظروفه وعدد أولاده ومن تزوج ومن طلق، وصغيرته المريضة «الله يشفيها». ولأني كنت أنظر في وجهه بدهشة، ظنني على الأرجح متشككة، فزاد، سارداً أمامي، هكذا، حالات عدة.
والمشكلة أن المختار لا يعرف متى تنجز المعاملة ولا ما إذا كانت هذه المرة تصح. ولأني أقيم في فرنسا ولا أعرف متى أعود مجدداً، ولأني كنت أريد هذه البطاقات معي في الصيف، واعتمدت عليها لعبور الحدود وزيارة دمشق، وقد خصصنا آخر دروس اللغة العربية التي أصر على إتقانهما لها، للقراءة عن جامع الأمويين، والتكايا، وبعض التاريخ، ونجحت في إثارة خيالهما وفضولهما، اقترح علي المختار مراجعة «بيروت» بنفسي، بل زاد هو الآخر: «ولو، استعملي واسطاتك ستنا»! ولأنه يتكلم باللهجة الطرابلسية العميقة، لم تفهم الصبيتان، ولم أشرح!
ولما اشتكيت أمام أخي الذي يقيم هنا، وقد رفض «تاريخياً» كل الحلول الأخرى، قال لي وقد أضيفت طبقة من الحزن على وجهه: «عادي، هذه حالنا في كل شيء»، وراح هو الآخر يتكلم عن فناء طرابلس، معتبراً أنه يشهد ويعيش هنا ما يوصف في كتب التاريخ عن كيفية زوال بعض المدن. جادلته: «ولكنها ليست مشكلة طرابلس وحدها، بل منظومة كاملة، ولا أظن الحال في سائر المدن والمناطق أفضل». أما هو، فكان مقتنعاً، بقوة، بالعكس... وهكذا تشعب النقاش، وخرجنا عن النص، أي عن مشكلتي مع بطاقات هوياتنا. وهو الآخر، قال لي «اتصلي بأحد أصدقائك ليحل لك المشكل بسرعة». هذه المرة، فهمتْ فرات وعدن، وخجلت منهما.