حصل حادث بسيط بين شبان من بلدتي شدرا ومشتى حسن عشية السبت الفائت، وتدخل الجيش على أثر الحادث، ليسيطر على الأمن. لكن في الأيام التالية، تتابع الخلاف إعلامياً بين أهالي شدرا وأهالي مشتى حسن، وسط استغلال سياسي للحادث يغذّيه الاحتقان والاتهامات المتبادلة
عكار ــ روبير عبد الله
يصعب على عابر الطريق بين بلدتي شدرا ومشتى حسن، الواقعتين في أقصى قضاء عكار على الحدود السورية، أن يدرك الحد الفاصل بين البلدتين. تتداخل البلدتان فتصبحان بلدة واحدة، بحكم التشابه العمراني. لم تكن تقتصر العلاقة بين شدرا ومشتى حسن على حدود التجاور الجغرافي فحسب، بل تعدت ذلك بكثير. يتشارك أهل البلدتين المصالح الحياتية والمعيشية. من الطبيعي هناك، أن يتبادل المدرّس والطبيب وصاحب الدكان وسائق الحافلة والتاجر، من إحدى البلدتين، الخدمات والتجارة، مع نظيره في البلدة الأخرى. نشأت علاقات تاريخية على تلك الخلفية، كانت تظهر واضحةً في المناسبات الدينية والاجتماعية، حيث يتشارك أهل البلدتين الأفراح والمآسي. عقّب الشيخ محمود خالد الحسين، إمام مسجد مشتى حسن، على هذه الأحوال الاجتماعية السابقة، مذكّراً بحادثة “قسمة الرغيف وحصة الطحين وحصة الأرزّ في محنة عام 1975”.
لكن، كان لا بد أيضاً من مشاكل روتينية. فبين الحين والآخر، تحصل خلافات، حتى ضمن البلدة الواحدة، لا مفر من ذلك. خلافات عادية، على أفضلية المرور، أو بسبب سلوك “طاش” عن الأعراف الاجتماعية المتداولة هناك. بيد أن الأمر خرج عن السيطرة أخيراً، ولم تكن حادثة السبت، إلّا سبباً مباشراً، سبقته أسباب أخرى كثيرة.
بدأت القصة حين مرت سيارة في بلدة شدرا، يستقلّها شبان من مشتى حسن. حصل تلاسن مع شبان آخرين في البلدة المضيفة، على خلفية “التزمير أو التلطيش”، كالعادة. وكما تجري الأمور في حالات كهذه، حصل عراك وتضارب. تطور الشجار، وتطورت معه روايات أهالي القريتين عن الحادثة. لكن الأمر المؤكد هو أن العراك استمر وقتاً طويلاً، حتى تدخلت وحدة من فوج المجوقل في الجيش، وبدأت حملة من التوقيفات في صفوف المتعاركين.
وفي هذا السياق، رأى نائب رئيس المجلس البلدي في مشتى حسن، أن الطريقة التي جرت بها الاعتقالات كانت عشوائية، و“جرى التعرض في خلالها لأشخاص لا علاقة لهم بالأمر، وأن أحد عناصر الجيش أمر صاحب دكان بإقفال دكانه بحجة أن الوقت بات في ساعات الليل المتأخرة”. أحدث الأمر امتعاضاً في صفوف المواطنين، برأي العضو البلدي، أعقبه تلاسن بين عناصر من الجيش وأشخاص من البلدة، الذين رأوا أن “السهر حق طبيعي للناس، وخصوصاً في ليالي شهر رمضان”.
العراك استمر وقتاً طويلاً، حتى تدخلت وحدة من الجيش اللبناني، وبدأت حملة من التوقيفات في صفوف المتعاركين
اختلفت التحليلات في شدرا. أحد الأهالي هناك، علّق على الموضوع بغضب شديد: “حتى لو كان الموضوع كله بحد ذاته قائم على خلفية حركات صبيانية، فإن الحال باتت لا تطاق، والتجاوزات صارت متكررة”. يقول المواطن الشدراوي، مردفاً أن هذه الخلافات “تحولت إلى تعدّيات إذ لا يكاد يوم يمر من من دون حدوثها، وهذا ما لم يعد من الممكن السكوت عنه”. يشعر مواطن آخر في شدرا، بأن “الأمر بات يأخذ طابع الغلبة والاستقواء من طرف مشتى حسن”، معلناً أن “حوادث أخرى كنا نسكت عنها، من قبيل التعرض لمزار مار تقلا، ومن قبيل رفض بلدية مشتى حسن الالتزام بموجبات اتفاق جرى توقيعه، ويتعلق بتعيين الحدود بين العقارات المتداخلة في خراج البلدتين، وما إلى ذلك من الحوادث المتفرقة”. كان خلاف السبت الفردي آخر الخلافات، لكن تداعياته واضحة.
“اعتدى أبناء مشتى حسن على أبنائنا”. هكذا، يصف مختار بلدة شدرا، شمعون الترك، واقع الأمر، قبل أن يستفيض ويعلن: “إن المسألة ما عادت مجرد حركات صبيانية من جانب شبان مراهقين، بل باتت استباحة كاملة لبلدتنا وأهلنا وأراضينا ومقدساتنا”، ولدى سؤاله عن رأيه في كيفية المعالجة، يجيب: “نحنا كل عمرنا جيران، ورح نبقى رغم أنف الذين لا يريدون ذلك، لكننا لا نرى الحرص نفسه من جانبهم، رغم وجود صداقات نعتز بها في أوساطهم، ونحن لا نلومهم إذا كانوا لا يمونون على جماعتهم، أعتذر من الأصدقاء الأوادم، ولكن أيعقل أن ضيعة بأكملها لا يوجد فيها من يستطيع رد المستبيحين وأن يقولوا لهم ماذا تفعلون؟”.
وكان شمعون قد أطلق تصريحاً نارياً على إحدى القنوات التلفزيونية، ما أثار حفيظة رئيس بلدية مشتى حسن حمزة الأحمد، وأجّج مشاعر الغضب في البلدتين من جديد. كان الأحمد أقل غضباً. وضع الحادث في سياق الخلافات الفردية، مؤكداً “أنه غير سياسي أو مذهبي أو طائفي”. لم يفت الأحمد أن يستنكر الأمر أيضاً، ويدعو إلى معالجته ضمن الأطر القانونية المناسبة، “التي نحرص على أن تأخذ مجراها، ولا نغطي أحداً كائناً من كان”. واستنكر الأحمد ما ذكرته إحدى محطات التلفزة، متهماً إياها بأنها أوردت “أن المفتي الجوزو أصدر أمر عملياته بشن حملة على التيار الوطني الحر، فكان التنفيذ بين مشتى حسن وشدرا”. واستعاد الأحمد غضبه تدريجياً، فاستغرب “من أهالي شدرا، ومن التيار الوطني الحر، والمحطة التلفزيونية، جهلهم ماذا يوجد في مشتى حسن إذ لا يعلمون أن مكتباً للتيار الوطني الحر لا يزال موجوداً في بلدتنا”.
لم يترك الاعتدال يأخذ مساحته تماماً، فقبل أن يختم حديثه، أطلق الأحمد اتهاماً خطيراً للمحطة التلفزيونية: “يكتفون بتصريح شمعون الترك المليء بالتحريض الطائفي والمذهبي، الذي بدا كأنّ لديه حنيناً إلى أيامه على حاجز البربارة”. وكي لا يبدو الأمر أنه ضد أهالي شدرا، ترحّم الأحمد على رجالات البلدة الجارة “وفي مقدمتهم الخوري إسبر”، برأيه العاقلين كثرٌ في شدرا.
وبرأي الشيخ محمود، أن بعض الصبية “يرغبون في إبراز فحولتهم”، وهو أمر يرى أنّه مرفوض بذاته أولاً، ومن ثم خصوصاً في ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات. وبالمناسبة، أكد إمام المسجد أنه حذر من مخاطر هذه “الفتنة”، في آخر خطبة له، أي قبل حدوث المشكلة الأخيرة بين شبان البلدتين، من دون أن يفته شجب الحادثة وشجب “تفاهة مرتكبيها”.
يختلف الفريقان في تأويل الحدث وتداعياته، لكن الأمر الواضح للزائر البلدتين، أن عناصر التفاهم بين أهاليهما، بدأت تتراجع، لتتقدم لغة الطائفية والمذهبية، وذلك كله رغم الحرمان المتبادل والواضح.


الاستقرار مقدمة لمصالحة اجتماعية

اقتصرت معالجة تداعيات العراك بين شبان شدرا ومشتى حسن على الجانب الأمني حتى الآن، لكن هذا لا يعني أنها ليست مفتوحة على مجالات أخرى؛ إذ استقبل راعي أبرشية عكار وتوابعها للروم الأرثوذكس، المطران باسيليوس منصور، عند الخامسة من عصر أمس، وفداً من بلدة مشتى حسن، يرأسه رئيس المجلس البلدي حسن الأحمد. كما أفاد مختار شدرا “الأخبار” أن فرع الاستخبارات في الشمال يعدّ للقاء آخر بين فعّاليات من شدرا، وأخرى من مشتى حسن، من المفترض أن يُعقد اليوم. وخلال المقابلة مع إمام مسجد مشتى حسن، تلقى الأخير اتصالاً من النائب السابق وجيه البعريني (له علاقات واسعة في البلدتين) (صاحب الصورة). وفي السياق نفسه، تتوقّع مصادر مطّلعة في البلدتين، أن يتدخّل عدد من الفعّاليات في القرى والبلدات المجاورة للمصالحة، وإذا استمرت المواقف المتشنّجة سوف تشمل انعكاساتها مجمل العلاقات القائمة، وتؤثر في المصالح المتداخلة. حتى الآن، ورغم خلاف شدرا ـــــ مشتى حسن، وشدة الاصطفافات الأخرى، لا تزال عكار تشهد تعايشاً لافتاً.