ثلاثة أيام مرت على انتشار خبر إفلاس رجل الأعمال صلاح عز الدين، من دون أن ترتفع الأصوات متهمة إياه بالاحتيال أو السرقة بخلاف ما كان يحصل مع رجال أعمال سبقوه إلى إعلان إفلاسهم. فمشاعر التضامن مع «رجل الخير والأخلاق»، كما يصفه كثيرون، تتضارب مع مشاعر غضب بعض المستثمرين لأموالهم لديه. بين الطرفين أسئلة لا تنتهي عن حلقة مفقودة يجب معرفتها لتحديد سبب الانهيار
مهى زراقط
تقاضى موظّفو دار الهادي رواتبهم كالمعتاد هذا الشهر، وهم يمارسون عملهم بشكل طبيعي. الموظفة في ديوان الهادي تتصل لتسأل مديرها عن ثمن كتاب لم يدفع، وعن نسبة الحسم التي يمكنها اعتمادها لبيع مجموعة مصاحف بالجملة. أما في الدار، التي يملكها رجل الأعمال صلاح عز الدين، فـ«طلبيات» الكتب موجودة على مكتب المسؤول. وعند المدخل، يمكنك أن ترى عجوزاً على عكاز، يبدو أنه لم يسمع بعد بالخبر لأنه كان يسأل عن موعد وصول «الحاج صلاح»، الذي اعتاد أن يدفع له بعض المال، كما يقول موظفون في الدار.
تشي هذه المشاهد بأن الأمور تسير على ما يرام في المكان، لكن الواقع ليس كذلك. الاتصالات لا تتوقف، وهي تأتي من لبنان والخارج، ومن شخصيات سياسية كما من أصحاب دور نشر ومواطنين عاديين. أما الجدية التي يمارس فيها الموظفون عملهم، فهي تخفي حزناً لا يلبث أن ينكشف بمجرد السماح للنفس بالتعبير. هنا، دموع تنهمر من عيني صديق قديم، وأخرى تختبئ في فيء حجاب موظفة تصف عملها مع «الحاج صلاح» بـ«ليلة القدر»، فيما يعبّر انفعال سكرتيرته، وإصرارها على تكرار عبارة «ما بدي جاوب»، عن ثورة مكبوتة.
إنه اليوم الثاني على انتشار خبر إفلاس صلاح عز الدين. يلهي الموظفون أنفسهم بالعمل، لكنهم ينصتون لما سيقال عن الرجل، الذي حاولت «الأخبار» التعرّف إليه أكثر، وخصوصاً بعد جولة بين الناس خلت من أي إشارة سلبية في حقه. «رجل الخير، المؤمن، الطيب...»، هذا هو مضمون العبارات التي تصدر في الشارع، بخلاف ما كان يمكن توقعه من اتهامات صدرت سابقاً بحق رجال أعمال سبقوه إلى الإفلاس.

أنا مستعدّ لرهن منزلي والمساهمة في تسديد ما يترتب عليه
ما هو سرّ هذا الصيت الطيب لرجل يقال إنه سبّب خسائر لنحو ألفي مستثمر أودعوه أموالهم؟ وما سبب التروّي في رفع الدعاوى القضائية ضده، على الرغم من مرور أيام على انتشار الخبر في الدوائر الضيقة، علماً بأنه تردّد أمس خبر عن رفع دعوى في حقه؟
«اسألي الناس لا تسألينا، كي لا يقال إن شهادتنا مجروحة به»، يجيب موظف مسؤول في الدار، فيما يصرّ صديق مقرّب له على الحديث عن الرجل «اللي كلّو أخلاق». هو يعرفه منذ 20 عاماً: «تعرّفت إليه في موسم الحج في السعودية، وبدأت أعمل معه منذ ذلك الوقت قبل أن تتحوّل علاقتنا إلى صداقة وأخوة». يختنق صوت الرجل بدموعه قبل أن يتابع: «أنا الآن مستعدّ لرهن منزلي والمساهمة في تسديد ما قد يترتب عليه». هذا الصديق لا يتردد في القول، إنه كان يتمنى لو سمع خبر وفاة صلاح على أن يسمع خبر إفلاسه ووضعه خلف القضبان، أو أن يقال عنه في يوم من الأيام إنه نصّاب.
كيف يمكن من خلق شيئاً من اللاشيء أن يكون نصّاباً؟ يسأل الموجودون في أحد مكاتب الدار، محاولين تقديم سيرة ذاتية لعمله، فلا ينجحون إلا قليلاً. من خلال شبك المعلومات يمكننا أن نعرف الآتي:
صلاح عز الدين، من مواليد بلدة معروب عام 1962، كبير إخوته الثمانية (أربعة شبان توفي أحدهم، وأربع فتيات). حاصل على إجازة في العلوم السياسية. عمل في بداياته ناظراً في مدرسة النجاح في الشياح، وكان يساعد والده في محل التنجيد. متزوج منذ منتصف الثمانينيات وله أربعة أولاد. عندما ذهب إلى الحج نهاية الثمانينيات، سأل عن كلفة تنظيم رحلات الحجّ، وقدّر أرباحها فأغراه المشروع وقرّر أن يؤسس عملاً خاصاً به. تقول سكرتيرته التي تعمل معه منذ 14 عاماً، إنه استدان ليؤسس، مع شريك له، «حملة السلام الحج». وفي منتصف التسعينيات، انفصل عن شريكه وأسس «حملة باب السلام» التي يصفها كثيرون في الضاحية بأنها «حملة 5 نجوم». فهي توفر للراغبين في الحج رحلة ترتقي خدماتها إلى فنادق 5 نجوم. وعلى الرغم من ارتفاع كلفتها إلى نحو 7 آلاف دولار، يؤكد قيّمون عليها أنها لم تكن تربح.
لا تاريخ دقيقاً يقدّم لبدء عمله في استثمار أموال الآخرين، لكنه يعود بضع سنوات فقط إلى الوراء. ويقال إن الحاج صلاح لم يكن يوافق على استثمار الأموال من أيّ كان، «كان الأمر يحتاج إلى واسطة أحياناً، وخصوصاً أنه يتعامل بمبالغ كبيرة» يروي تاجر على اطلاع على بعض أعمال عز الدين، مقدّراً أن يكون ما حصل ضربة كبيرة ناجمة عن سوء تقدير لأرباح مشروع معين. لكنه يستبعد الرقم الذي ذكر في وسائل الإعلام «لا أعتقد أن الرقم يتجاوز الـ650 مليون دولار».
الحديث عن توسع نشاط صلاح عز الدين، واتجاهه نحو تجارة الحديد «وما يقال من نفط وأمور أخرى» أمور يؤكد العاملون في الدار أنهم لا يعرفونها. كما يؤكدون أنهم لم يكونوا يعرفون شيئاً عن خسائره «فهو لم يكن يقول شيئاً لأحد». حتى في الأيام التي سبقت الإعلان عن توقيفه، وكان خلالها غائباً عن السمع، لم يكونوا يعرفون شيئاً عن سبب هذا الغياب. أحد أصدقائه يقول إنه عرف بالأمر منه قبل عشرة أيام، ويحكي آخر أنه دخل مرة إلى مكتبه فوجده مهموماً وحزيناً، وعندما سأله عن السبب قال له إنه خسر نحو 20 مليون دولار في أحد المشاريع.
يتفادى موظفو الدار محاولات تخيّل وضعه اليوم في مركز التوقيف، وإن كانوا سمعوا أنه بخير. هم يترقبون الأيام المقبلة التي سترتفع فيها صرخات المستثمرين، فيحاولون تذكر ما كان سيفعله الحاج صلاح في ظروف مماثلة، ويسترجعون وصايا قالها لهم في الأيام الأخيرة قبل أن «يختفي»، وفهموا مغزاها اليوم: «لا تنصتوا لكلّ ما سيقال، يمكنكم أن تجيبوا الناس فقط بعبارة: الله لا يبليكم».