ناجي قديح*سيصبح التغير المناخي في السنوات القليلة المقبلة، تهديداً حقيقياً للحياة على الكرة الأرضية، إذا ما استمرت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة، المسببة للاحتباس الحراري. ولذلك، فإن المسألة هي في أن تستمر الشروط الملائمة للحياة على الأرض، أو في أن تضطرب هذه الشروط، بما يجعل الحياة على الأرض مترافقة بمخاطر كبيرة.
عندما تكون المسألة كذلك، لا يعود مقبولاً التعامل معها على ضوء معايير الهيمنة والنفوذ السياسي أو الاقتصادي أو المالي، ولا تعود مقبولة المناورات، على قاعدة الحفاظ على المصالح الحيوية لهذا البلد أو ذاك، مهما علا شأن هذا البلد وشأن هذه المصالح.
ومن هذه الزاوية بالتحديد، ننظر إلى أهمية المفاوضات العالمية الجارية من أجل الوصول، في كوبنهاغن نهاية هذا العام، إلى اتفاقية شاملة تضع حداً لتهديد الحياة على الأرض، وتعيد انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة إلى مستويات آمنة، من خلال استراتيجية دولية، تتحدد فيها التزامات وواجبات كل دولة بوضوح ودقة، وتتحقق فيها المبادئ وخطط العمل، التي جرى الاتفاق عليها في مراحل سابقة.
على أساس هذا التحليل، تصبح الاستراتيجية التفاوضية، التي تعتمدها المملكة العربية السعودية، بإصرار، على امتداد هذه المفاوضات منذ سنوات وحتى الآن، شديدة الوضوح في إعاقتها الوصول إلى هذه الاتفاقية، بل أكثر من ذلك، في محاولاتها تشتيت وإضاعة كل فرص الوصول إلى أي اتفاق عالمي جدي.
يطالب المفاوض السعودي بتعويضات عن إيراداته النفطية، إذا ما التزمت البلدان المتطورة بتخفيف انبعاثاتها من ثاني أوكسيد الكربون، أي بتخفيف اعتمادها على الوقود الأحفوري، تدريجاً، كمصدر وحيد أساسي للطاقة. ويطالب المفاوض السعودي أيضاً بإدراج هذه التعويضات تحت عنوان مساعدات التكيّف، المعدّة أصلاً لمساعدة البلدان الأكثر فقراً والأكثر عرضة لآثار التغير المناخي المباشرة، حالياً وفي المدى القريب. ويصرّ المفاوض السعودي دون كلل، على عدم طرح أرقام وقيم دقيقة لالتزامات التخفيف، وعدم طرح أهداف واضحة ودقيقة، تسعى استراتيجيات التخفيف لمختلف دول العالم إلى الالتزام بها حتى عام 2020 كمرحلة أولى، و2050 كمرحلة نهائية، للعودة إلى مستويات آمنة من الانبعاثات، ودرء المخاطر الكارثية للتغير المناخي عن كوكبنا. وهو لا يتوانى عن رفض إدراج أية قيم دقيقة عن حجم الأموال المطلوب رصدها من قبل دول العالم، ولا سيما المتقدمة منها، من أجل مساعدة الدول النامية على تنفيذ برامجها الوطنية الطوعية لتخفيف الانبعاثات، وللتكيف مع الآثار المباشرة للتغير المناخي، على البنى التحتية والاقتصاد وفرص التنمية في هذه البلدان والبلدان الفقيرة والأكثر تعرضاً.
إن أقل ما يقال في هذه الاستراتيجية التفاوضية للمملكة العربية السعودية أنها غير أخلاقية. فهي تتنكّر لحق حياة شعوب العالم بالحياة في ظروف آمنة، لحساب تجارتها ومصالحها النفطية، التي هي أيضاً، والحق يقال، شريكة بالمسؤولية مع الدول المستهلكة للنفط، ولو بنسب متباينة، عن التسبب بالاحتباس الحراري والتغير المناخي من حيث الأساس.

يطالب المفاوض السعودي بتعويضات عن إيراداته النفطية
أكثر من ذلك، إن المواقف التفاوضية للعربية السعودية تتيح الفرصة للدول المتقدمة للتنصل من التزاماتها، وللاختباء وراء الموقف السعودي من أجل عدم الالتزام بنسب مقبولة لتخفيف الانبعاثات، وللمناورة والالتفاف على الدول النامية، من أجل الضغط عليها لتحمّل مزيد من الالتزامات في مجالي التخفيف والتكيف، ما يجعل الاتفاق على تسوية أمراً شديد الصعوبة.
وتعدّ هذه المواقف طعناً بالمصالح الحقيقية للبلدان النامية، والضعيفة النمو، والأكثر ضعفاً وتأثراً بالتغيرات المناخية، والدول الجزرية الصغيرة.
بالإضافة إلى كل ذلك، إن الاستراتيجية التفاوضية للمملكة العربية السعودية في المفاوضات الدولية لتغير المناخ، تضعف المواقف التفاوضية لمجموعة الـ 77 والصين، التي تضم عدداً كبيراً من الدول النامية، بما فيها البلدان الأكثر نموّاً (الصين والهند والبرازيل)، والمجموعة الأفريقية، وتحالف الدول الفقيرة والأقل نموّاً، والدول الجزرية الصغيرة. بل أكثر من ذلك، إن هذه الاستراتيجية، وسلسلة المواقف الاستفزازية، التي يتخذها المفاوض السعودي في كل مجموعات الاتصال، تهدد فعلاً وحدة مجموعة الـ 77 والصين بمخاطر التفكك، لما تثيره من تناقضات واستقطابات داخلها، ما يضعف مواقفها، ويضعف آمال الوصول إلى اتفاقية طموحة وعادلة وفعالة للتغير المناخي، في كوبنهاغن كانون الأول المقبل.
وأخيراً، إن الاستراتيجية التفاوضية السعودية تحرج الدول العربية المختلفة، وتكبلها، على الرغم من حقيقة مصالحها الوطنية، وتضعها، مع جامعة الدول العربية أيضاً، في دائرة نفوذها وتأثيرها فتعطل قدرتها، الضعيفة أصلاً، على اتخاذ مواقف متمايزة مطلوبة بإلحاح، لمصلحة شعوبها والحياة على الكوكب.
كل ذلك، كان شديد الوضوح في حلقة المفاوضات، التي استمرت أسبوعين في بنكوك منذ أيام. كم نأمل ونتمنى أن تنهض الحكومات العربية، وتستمع إلى نبض مواطنيها، وتعلن مواقفها المؤيدة لاتفاقية شاملة، عادلة، طموحة، وفعالة، واضحة في التزاماتها وأهدافها، فما زال هناك شهر ونيّف لاستحقاق كوبنهاغن الكبير.
* مهندس