إبراهيم عياد الحزب الشيوعي؟ آااخ خ خ...
تعرّفتُ إليه، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أراه فيها..
عام 1983، كانت صور مثل الكثير غيرها من المدن والبلدات تغرق في غلس الاحتلال.. كان الهمّ الأعظم لثلّة من الشباب هو العمل على رفع هذا الكابوس، وكان العمل على قدم وساق رغم الصعوبات الهائلة...
كان العمل المقاوم هو المهم بالنسبة إليه الآن، لكن الإنسان هو الأهم دائماً.
كان يختبر معلوماتنا عن جبل أو زاوية، عن شجرة أو مفترق طرق، ويربط ذلك كلّه بمطوّلة عن تاريخ المنطقة المعيّنة.. ثم ينتقل إلى أسئلة في التاريخ والجغرافيا والعلوم والحروب، كمَن يسترسل في شرح دقائق لم نفهمها في الموضوع نفسه.
كانت مداركنا بالكاد تقارب سطح الأمور التي يريد منّا أجوبة عنها، ما يبعث فينا ضحكاً خجولاً ننال عليه تقريعاً عنيفاً.
حدّثنا عن هذه المنطقة صاحبة التاريخ المتخم بالأحداث العنيفة السريعة التغيُّر، عن معركة حطّين، القادسية، السومريين، الآشوريين، الكنعانيين، المسيح، بيلاطس البنطي، الحروب الصليبية، ابن الخشّاب، الخلفاء الراشدين، المتنبّي، الحطيئة، الشنفرى، جابر بن حيان، ابن رشد، ابن الهيثم، إلخ، إلخ، إلخ...
كان يتحدث بانفعال، كأنه يرمي الأحداث أمامنا كمتحجّرات لكائنات بائدة تعود إلى الحياة فنلمسها ونشمّها ونعيش معها.
وقال متعجّباً: أليس من المعيب على مَن يطرح نفسه ساعياً لتغيير العالم نحو الأفضل أن يُذكَر أيٌّ من هذه الأحداث أو الأشخاص ولا يعرف عنها ولا عنهم شيئاً ذا عبرة؟
إن شرطَ القدرة على التغيير هو الوعي الوافي للحاضر الذي يرتبط عضوياً بالماضي كسلسلةٍ لامتناهية، إنْ فُقدت إحدى حلقاتها يصبح من المستحيل إعادة وصلها إلّا بصناعة حلقة هجينة تأخذ مكان الحلقة المفقودة، لكنّها تظلّ غريبةً عنها مهما اجتهدنا.
إليكم ما أنتم عليه: في أوائل الأربعينيات أصدر الحزب الشيوعي مجلة «الطريق» وكان في هيئتها الإدارية الأديب الرفيق «الرفيق» رئيف خوري. وكنت ضمن مجموعة من الشيوعيين الأغرار «الفدائيين». نعم، فأن تكون شيوعياً في ذلك الزمن يعني أنك عدوّ لكل سلطة، بدءاً من رأس الهرم إلى الوزراء والنواب والبلديات و«رجال الدين»، وانتهاءً بأصغر موظف في الدولة. كنا مدنيين نقوم بحماية مبنى المجلة خوفَ هجمات متوقّعةٍ من الغوغاء الذين كانوا يحاولون باستمرار التخريب أو استفزاز العاملين فيها...
كان للرفيق خوري مكتب صغير عُلّقت خلفه لوحة كُتب عليها: «حِكْمَةُ عَليّ وعدالةُ عُمَر وشجاعةُ الحُسين» مشغولة بخطّ رائع.. كانت هذه اللوحة تستفزني كلما رأيتها وكنتُ أتحيَّنُ الفرص لأسأله عن معنى وجودها في مكتب للحزب الشيوعي!!
فقد كنتُ مثل معظمكم لا أُطيقُ الحديث عن أمور تتعلق بالأديان. فالاستعمار التركي، الذي حكم المنطقة باسم الدين لأكثر من ثلاثمئة عام وجعلها تنقطع عن ركب الحضارة بواسطة «رجال الدين» الذين كانوا موظفين مبخّرين للصدر الأعظم، كان لا يزال طرياً في الذاكرة.. وكلُّ ذلك، مع فقرنا المريع، جعلنا نمقت التاريخ بكلّ ما يحمله، والديني منه على الأخصّ.
أسعفني الحظّ في إيصال رسالة إلى الرفيق رئيف. دخلتُ عليه فبادرني بالدعوة إلى شرب الشاي، فواتتني الجرأة لكي أسأله باستخفاف عن هذه اللوحة. استمعَ إلى سؤالي بإنصات وفاجأني بردٍّ صاعق شديد الهدوء: وضعت هذه اللوحة هنا «حتى يجي واحد تيس متلك ويسألني هيك سؤال»!! واستطرد في حديث شبيه بما أُحدّثكم به الآن، وأسمعني نفائسَ من تاريخ هؤلاء الرجال الرجال، وقال: يا سليمان، إن الشيوعي لن يكون سوياً إن لم يعرف تاريخ بلاده، وخاصة تلك الصفحات الناصعة التي يمثّلها أمثال هؤلاء العظام.. فالشيوعي يجب أن يكون مثالاً للحكمة كعليّ وعادلاً كعمر وشجاعاً كالحسين.. و.. و.. وخرجت من المكتب ورأسي يقرع كالطبل وهو مستمر في القرع حتى الآن.
أيّها الرفاق، لقد كنت تيساً في صباي، فانتبهوا!!!

* تحية إلى رئيف خوري وسليمان عبد الأمير.
(رحل الأديب رئيف خوري عام 1967 ولحق به الرفيق سليمان عبد الأمير قبل اندحار الغزاة في عام 2000).