وائل عبد الفتاحإنّها نصف خطوة إذاً. المصالحة تسير بين «فتح» و«حماس» بالدفع الذاتي المصري وبالخوف من النهايات غير المتوقعة لتنظيمات متجمدة لا تملك حرية حركة أبعد من النصف خطوة. إنها مساحة الوجود والفعالية المتاحة. مصر أعطت مهلة لقادة «حماس» للرد على ورقة المصالحة. «حماس» قبلها اقتربت من الموقف المصري، الذي كان غاضباً من أبو مازن. العاطفيون اعتبروها مؤامرة من محمد دحلان للانقضاض على الرئاسة. إنها مرحلته كما يتوقع مراقبو خطوط الصعود والهبوط في السياسة. هل صعود دحلان نقلة إيجابية؟ أم انتكاس لـ«فتح» المنتكسة أصلاً تحت إدارة الموظفين؟ ليست هناك إجابة. فقط هواجس وتصورات بأنّ قبول الوضع الحالي أهون من الآتي. والمصالحة المنتظرة قبل عيد الأضحى، أفضل من التي ستؤجل إلى ما بعد العيد. لماذا؟ لا إجابات.
أسئلة أخرى: هل إنهاء الحرب الباردة بين دمشق والرياض شيء جيد؟ أم أن القاهرة ستدخل على الخط وتشعل الحرب الباردة من جديد بين التحالف الثلاثي القديم؟ القاهرة غاضبة أم قلقة من خطوة الملك عبد الله؟ لماذا؟ مرة أخرى إنها الهواجس. والتاريخ الذي يسير بسرعات متباينة على أكثر من محور. لنرَ سوريا تقود العروبة تحت شعار «الجولان عائدة»، بينما يتهمها العرب بتفكيك لحمة العرب بالتحالف مع إيران. عروبة ذكريات أو آثار غائرة قائمة على الأسى واللطم والتمركز حول الهزيمة والعجز. دمشق مع إيران نصف خطوة لا تكمل، هي نفسها نصف الخطوة بين دمشق والحلفاء القدامى. الرياض بادرت والقاهرة تنتظر وعداً بعدم تعطيل المصالحة. ونصف خطوة المصالحة كادت أن تكتمل في آب، وتكاد أن تكتمل في تشرين.
هناك من يعرقل المصالحة. تصريح اعتيادي. لكن ولا مرة كان يطرح السؤال: ولماذا ينجح دائماًَ هذا الغامض الذي يعرف الكل بوجوده. ولا مرة أفسد عليه أحد طبخته.
إنها تداعيات أزمة يصفها غرامشي بأنها «غير ثورية»، ويجسدها احتقان دائم لا ينتهي بين قوة مسيطرة، شراستها ليست مستفزة، لكنها لا تهيمن على العواطف أو العقول. ليس لديها مشروع سوى الاستمرار أو الوجود الأبدي. وبين السيطرة والهيمنة تولد قوى أخرى لكنها صغيرة وفوّارة ولا تملك سوى شرعية عاطفية.
أزمة الاحتقان قد تستمر سنوات لا نهاية لها. وهذا ما يبدو من المصالحة التي تسير بإيقاع نصف الخطوة منذ ما يقرب من عام، حتى أصبحت هدفاً بحد ذاته تذوب فيه خلافات وتنسى قضايا. لا أهمية لمواجهة تهويد القدس أو لحشد العالم في مواجهة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
تخرج وسط هذه الأزمة آهات وحشرجات صوت العاطفيين المصدومين والمنتظرين لمخلص يحمل معه المعجزة. هؤلاء أبناء أخطاء الثورات العربية وأحلام العسكر. تجمدوا عند العواطف والعقل الباحث عن مؤامرة يستكين إليها لينام مطمئناً بأن هناك من يخطط لإفساد رحلته إلى الانتصار.
لا عقل في كل هذا. مجرد عواطف وغرائز وعقلانية ليست سوى انتهازية متواضعة تبحث عن أغراض ومصالح صغيرة. هذا ما يجعل دول المواجهة لا تختلف كثيراً عن دول أخرى بعيدة عن خطوط النار. لكنها جميعاً معلبات بشرية مزدحمة وخانقة.
ليس هناك فرق كبير بين دولة نفط تشتري قدراتها الاستهلاكية بثورة صعدت من الأرض، ودولة فقيرة لا تزال تتسول بما دفعته في الحرب. لا فرق إلا في درجة البكاء على العروبة المجروحة. إنه بكاء يسيل على الدائرة المحتقنة. يجعلها مؤثرة أكثر، وربما يغلظ جدرانها بعد أن يجعلها أكثر رومانسية. هكذا تتكاثر حوائط المبكى في الدول العربية. وهكذا يبدو التطرف حلاً بالنسبة لهؤلاء الثكالى والأرامل. التطرف بما يعنيه الدخول في حرب مقدسة أبدية أو الاستسلام الكامل بلا شروط لطلبات العدو المنتصر.
كلاهما تطرُّف افتراضي. لا يرى سوى ما تتيحه نصف الخطوة أو أقل. لا العالم مستعد للقبول بحرب تصفية وإبادة جماعية. ولم يعد لدى أحد القدرة على توقيع وثيقة الاستسلام الكامل.
بينهما يمكن التفكير في كسر دائرة النصف خطوة، وفتح ممرات بين حوائط المبكى العربية لترى العقول الجديدة حلولاً جديدة لا تلغي الشجاعة، ولا تقع في سحر العدو المنتصر.
الصراع أصبح أبعد عن التفاؤل والتشاؤم. هناك أمل. لكن الأمل لا يسير في شوارع عبّدها الاستقطاب الحاد. وهناك يأس كامل. ربما يكون بداية لكسر دوائر النصف خطوة والاحتقان المزمن.
سياسة النصف خطوة ابنة اللاسياسة التي اخترعتها عقلية البحث عن انتصار مطلق. ألغيت السياسة عندما كان إلغاء العدو لا هزيمته هو المشروع الكبير. وعندما حدثت الهزيمة، أعلنت شرائح توبتها من الحلم المطلق وكفرت بالحق والعدل في نصر يستعيد للفلسطينيين أرضهم ووجودهم السياسي. وهذا مثل النصر المطلق هزيمة مطلقة، بينهما بدت فلسطين نوستالجيا للأندلس في خرافة سياسية فاضحة تتصور أن الحنين إلى زمن امبراطوريات الاحتلال يتساوى مع استعادة حق ووجود والتصدي لأحلام الدولة العنصرية.
البعض يفكر وكأنه سيستعيد فلسطين على طريقة إسرائيل. سيحررها مع جند الله لتمنحه الحق التاريخي. هؤلاء الحالمون بإسرائيل عربية، ليذهبوا إلى الجحيم. هم وسياسة النصف خطوة.