تنسّق بلدية الشويفات مع القوى الأمنية، لعقد اجتماعٍ مع الأطراف المعنيّين بأوضاع الحيّ مطلع الأسبوع المقبل على أبعد تقدير. هدف الاجتماع؟ البحث في السبل السلميّة لحل أزمة المقاهي المنتشرة عشوائياً عند مدخل الحي
راجانا حمية
كان السيناريو كالآتي: يقوم مجلس الإنماء والإعمار، بالتعاون مع بلدية الشويفات، بتأهيل طريق حي السلم في المنطقة المعروفة باسم “الموقف الجديد”. ويفترض ذلك “تحرير” الطريق من المقاهي المخالفة، التي نبتت هناك بسرعة هائلة بعد حرب تموز. فمنذ تلك الحرب وحتى فترةٍ قريبة (أقل من شهر)، كان “كورنيش” الطريق، أي الوسطية التي تفصل بين الاتجاهين، يعجّ بسلسلة مقاهٍ مرتجلة لأبناء الحيّ، علماً بأن عرض الكورنيش لا يتّسع لكرسيّ طفلٍ صغير، فكيف بثلاثة مقاهٍ وبضع عربات متنقّلة إلى جانبها؟ النتيجة المحتومة كانت: عواميد المقهى مثبّتة في الكورنيش، إلّا أن المقاهي “طايفة” على الجانبين، أي على اتجاهَي الطريق المفترض أن تسلكهما السيارات.
لكن السيناريو لدى تنفيذه أصبح على الشكل الآتي: عبّد مجلس الإنماء والإعمار الطريق، وسدّ الثُغر التي أحدثتها أساسات المقاهي في متن الكورنيش. لكن، حالما مرّ أسبوع، عادت المقاهي إلى “كورنيشها”.. و“عَ نضافة”. أكثر من ذلك، حوّل أصحاب المساكن القريبة جانبي الطريق إلى مرأب لسياراتهم. هكذا، أصبح على السيارات العابرة، أن تتنبّه كثيراً لدى عبورها من “مضيق” موقف حي السلم لئلّا تصطدم بسيارة من هنا أو بسيارة من هناك.
كان يمكن أن يمرّ كل شيء من دون صخب، إلّا أنّ بين “المتضرّرين” من بات لا يجد في الصمت حلاً. طالب بعضهم الجهات الحزبية التي تمون، ولكن خفيةً، تجنّباً للصدامات مع الجيران، بإيجاد حل ينظّم من جهة الحياة في الحي الهامشي، ويحافظ من جهة أخرى على رزق أصحاب المقاهي. هذه الشكوى حرّكت ملفّ “التعديات على الأملاك العامّة، التي هي مسألة قديمة تُعالَج في محافظة جبل لبنان منذ فترةٍ طويلة” حسب ما يشير المحافظ بالتكليف القاضي أنطوان سليمان.
ورغم أنّها “مسألة قديمة”، فإنّ بلديّة الشويفات لم تتمكّن من نقل المقاهي إلى مكانٍ آخر، كما أنّ الجهات الحزبيّة أزاحت مسؤولية نزع المخالفات عن كاهلها، قائلةً إنها ليست الدولة.
لكن، كيف يمكن الحفاظ على لقمة عيش أكثر من 6 أسر تقوم على مخالفة تعوّق حياة الحي؟ وكيف يمكن إقناع هؤلاء بالرضوخ في ظلّ استماتة الفقراء لتأمين لقمة باتت عصيّة ولو كانت ضد القانون؟
رغم صعوبة الأمر، ومعرفة الكلّ بذلك من: بلدية الشويفات المخوّلة قانوناً متابعة أوضاع الحي، ومخفر المريجة المكلّف قمع المخالفات والأطراف الموجودين في الحي، فإنه كان لا بدّ من المجازفة. هكذا، صدر الأمر من النيابة العامة تحت عنوان “قمع التعديّات على الأملاك العامة”، وسُلّم مخفر المريجة صلاحية تبليغ الأمر. قضى التبليغ بمنح أصحاب المقاهي مهلة شهر لنقلها إلى مكان آخر أو العمل على إيجاد صيغة إدارية من خلال الحصول على تراخيص قانونية.
انقضت المهلة. بقي أصحاب المقاهي حيث هم. فما كان من القوى الأمنية سوى النزول إلى الأرض لتنفيذ البلاغ. كانوا عشرين عسكرياً. نزلوا إلى الحي المدني بأسلحتهم وهراواتهم، فكان مشهداً غريباً في الضاحية التي لا يدخلونها كثيراً. أوامرهم كانت واضحة: إزاحة الأكواخ من وسط الطريق، ولو “برميها وتكسيرها”، كما وصف أبو علي المخ ما حصل لأحد تلك المقاهي العائدة إلى شخص من آل المقداد. أما المقهى الآخر العائد إلى فضل الله المقداد، فقد حاول الدرك قلبه ورميه من مكانه، إلا أن اعتصام فتاتين داخله، حال دون ذلك. أما الحيّ، فلم يسلم من إطلاق الرصاص، ولو كان في الهواء، ومن جانب الطرفين (انظر الأخبار 18 أيلول 2009”).
قضى التبليغ بمنح أصحاب المقاهي مهلة شهر لنقلها إلى مكان آخر أو إيجاد صيغة إدارية
كان ذلك قبل 3 أيام من عيد الفطر. عيّد بعض أهالي الحي في قراهم، وعادوا ليجدوا كورنيشهم الصغير وقد تحرّر من المقاهي، التي انتقلت إلى... طرفي الطريق، الخالي أصلاً من الأرصفة. إلّا أن ذلك لن يفيدهم في شيء ربما، ذلك أن احتلالهم للأملاك العامّة لا يزال هو هو، وإن ابتعدوا من وسط الطريق. ولئن كانت القوى الأمنية ترتقب حلاً سلمياً تسعى إليه البلدية، فإن المصدر ذاته يتخوّف من أن لا تكون عودتها المرتقبة “سلميّة”، وخصوصاً أن أصحاب المقاهي يصرّون “على المواجهة” كما قال هؤلاء لـ“الأخبار”. فبالنسبة إلى أبو علي المخ، بقاؤه “مستوطناً” على الطريق هو للحفاظ على لقمة عيشه. هكذا، يواظب على العمل: يحضر في السادسة صباحاً. يجلس على كرسيّه الخشبي في المقهى بانتظار استيقاظ الرفاق “بنتسلّى وبنلقّط رزقنا”، وينهي دوامه السادسة مساءً بغلّةٍ يعطيها لصاحب المقهى “تصل أحياناً إلى 900 ألف ليرة لبنانية”. بعد النقلة؟. يجيب بنعم، فقبل النقلة كانت “مليوناً و700 ألف ليرة”. رغم هذا التراجع، إلا أن أبو علي لن “يتزحزح” من المقهى الذي يدر عليه أجراً شهرياً يبلغ 800 ألف ليرة “وهو ما لا يتقاضاه أي موظف في الدولة”. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقاهي الباقية، حيث لا تقلّ “يوميّة الواحد منها عن 500 ألف”، كما يقول.
ولأن معظم أصحاب المقاهي “أبناء عشيرة”، فإن لهذه الصفة من “الردعية” ما يمنع المتضررين من التقدّم بشكاوى. “عندما تبلّغ الشكاوى إلى أصحابها بدها تجي بإسم مقدّم الشكوى، ساعتها مين بيخلّصك؟” يقول أحد السكان. ويضيف “هذه المقاهي نبتت كالفطر عقب حرب تمّوز”، سارداً قصة “محل تياب” وُلد “بقدرة قادر” وسط الطريق منذ شهرين! كانت تقف عربة قهوة متنقّلة مكان المحل، وعندما “بدأت القهاوي تنتشر، شال صاحب العرباية عربايتو وصنع تخشيبة، ثم شيئاً فشيئاً بدأ ببناء “جدران” من أبواب الكاراجات، إلى أن أصبحت محلّ ألبسة الآن”.
والمفاجأة؟ العربة عادت إلى جانبها لبيع القهوة. يعرف الرجل أنّ “نزع المخالفات بالقانون سيكلّف قتلى. متل واحد حامل كيس مصاري وإنت بدك تشلحو اياه”، أما بالنسبة إلى الحلول السلمية، فلا يعوّل عليها كثيراً، ويعلّق ساخراً “ولك كل ما طلبنا من الحزب (حزب الله) ينظموا الموقف بيقولوا مش مسؤوليتنا”.
تتقاطع الشكاوى عند حزب الله، فبلدية الشويفات أيضاً ترى أن نزولها إلى الحي مرهون بالحزب. أما مصادر حزب الله، فتقول: “لسنا الدولة ولا علاقة لنا بقمع مخالفات، فلتقم هي بما يلزم ونحن تحت القانون”. ويضيف رداً على سؤال “من يُرد الدخول إلى الضاحية فلا يحتاج إلى إذن، ونحن مستعدون لمساعدة الجميع إذا أرادوا”. في هذا الإطار، تتهيّأ بلدية الشويفات “لعقد اجتماعٍ مطلع الأسبوع المقبل مع الأطراف المعنيّين في الحي، إضافةً إلى ممثلين أمنيين لحل الأزمة بالطرق السلميّة”، يقول رئيس بلدية الشويفات هيثم الجردي. وقد يقترح الجردي حلاً يقضي بنقل المقاهي والعربات إلى السوق القديم. وهو ما يثير تساؤلاً آخر يبدو من المفيد إعادة طرحه: هل تكون المعالجة بنقل المخالفة إلى مكان مخالف آخر؟


الدولة في حي السلّم!

ربّما هي من المرات القليلة التي تدخل فيها الدولة حيّ السلّم. مشهد العسكريين العشرين الذين حضروا إلى مدخل حيّ السلّم في السابع عشر من الجاري لنزع المقاهي من وسط الطريق أعاد إلى الأهالي ذكرى “الحرب التي دارت بين الأهالي والجيش اللبناني في السابع والعشرين من أيّار 2004، عندما كان الأهالي يتظاهرون احتجاجاً على تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية”، يقول أحد القاطنين في الحي منذ عام 1964، الذي شهد معظم “دورات العنف هنا في الحي”. الفارق بين التاريخين، أنّ الأوّل لم يحمل ذكرى سقوط شهداء، باستثناء جريحين وجراحهما طفيفة جدّاً. أما الثاني، فلا يزال إلى الآن يذكّر الرجل “بالشباب الخمسة الذين قُتلوا لأنهم كانوا يحتجّون على غلاء لقمة العيش”. ليست هذه الحوادث هي التي جعلت العلاقة بين الدولة وأهالي الحي علاقة “الزوجة الأولى والضرّة”، ولكن “تصرّف الدولة معنا، فهي تأتي إلينا عندما نكون مخالفين، أما عندما نكون بحاجةٍ إليها فلا نجدها”... “وينيّ الدولة؟”.