بول الأشقر*يحلو للبعض تسجيل «انتصارات» وهمية ترتدّ عليهم وعلى قضايانا أضراراً فادحة لا يستحقها الشعب الفلسطيني ولا نحن ولا حتى هم. موضوع الحملة على «يوميات آن فرانك» واعتبار تدريسه «تطبيعاً» نموذج فادح لـ«انتصار» كهذا. مثّلت تاريخياً معاداة اليهود ظاهرة سياسية فكرية نمت في أوروبا الغربية منها والشرقية قي القرن التاسع عشر. وأدى هذا الفكر الذي ولد من رحم اليمين المتطرف قبل أن ينتشر خارجه دوراً مواكباً لتغييرات اقتصادية لها علاقة بنشوء الرأسمالية، وسياسية ذات علاقة بنشوء الدول ـــــ الأمم. ومثّلت المسيحية (تحديداً الشرقية) البنيان الأيديولوجي الذي ترعرع فيه هذا الفكر التمييزي، وفق مقولة «هؤلاء الذين قتلوا السيد المسيح»، الرجل والإله في آن واحد. أبرز نموذج عن اللجوء إلى «معاداة اليهودية» مارسته روسيا القيصرية التي لم تتوقف يوماً عن تأليب مواطنيها الفلاحين عليهم كي تجعل من اليهود «كبش محرقة» لتفسير ماورائي ـــــ اقتصادي لما حلّ بفلاحيها. أقرب شيء مشابه لهذه الظاهرة نراه في ما يحدث اليوم للجاليات اللبنانية في عدد من الدول الأفريقية.
للمناسبة، الظاهرة كانت غريبة عن العالم الإسلامي لدرجة أنّ الإمبراطورية العثمانية تدخّلت مراراً لحماية اليهود من الاضطهاد في روسيا، على نمط ما فعلته فرنسا لحماية مسيحيي جبل لبنان جرّاء أحداث 1860. أهم من ذلك، لم يعش اليهود فعلياً في أمان إلا في الشرق الأوسط ـــــ إيران، العراق، مصر، سوريا، لبنان، فلسطين ودول المغرب.
في القرن العشرين، أخذ الفكر المعادي لليهود منحى مدينيّاً كانت أبرز تجلياته صعود البورجوازية الصغيرة الفاشية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929 التي صاغت ما سمّته «الحل النهائي» للمسألة اليهودية، من خلال وضع خطة مبرمجة لاستئصال اليهود من بيئاتهم المتنوّعة ـــــ أفراداً وبالملايين ـــــ وتجميعهم في معسكرات اعتقال قبل تصفيتهم. ومثّلت هذه الخطة التي سمّيت «المحرقة» إحدى أفظع جرائم التاريخ الإنساني وأفظعها في القرن العشرين. ولم تكن تعني اليهود تخصيصاً، بل شملت أيضاً قبائل الرحّل (الرومانيشيل أو التزسيغان المنتشرة في أوروبا الشرقية) وكادت تشمل المشرقيين من العرب لو كتب للنازية الفوز، فنحن أيضاً صنّفَنا العرق الآري «الراقي» من «الجنس الواطي» السامي نفسه. اليوم، تمثّل نزعة «معاداة الإسلام» المنتشرة في أوروبا تتمة طبيعية ـــــ من الرحم نفسها ـــــ لمعاداة اليهود. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحديد معالم مكافحتها دون استيعاب العناصر المولّدة لبروفتها الأصلية.
مثّلت «المحرقة» للصهيونية الرافعة السياسية ـــــ الإنسانية لإنشاء دولة إسرائيل على أنقاض فلسطين، وللاستيلاء على العقول الغربية المصابة بـ«عقدة الذنب»، ولتقديم نفسها «الحل النهائي» للمسألة اليهودية. وصار شغلها الشاغل تفكيك الاندماج الطوعي المصان والمحترم لليهود العرب في مجتمعاتهم، وأدى الموساد دوراً مميزاً في تلك المهمة المصيرية بالنسبة إلى إسرائيل، ولم يتردد ولو لحظة في تفجير الأحياء اليهودية، أشهرها في القاهرة وبغداد. على سبيل المثال، في قارة عملي ـــــ أميركا اللاتينية ـــــ كانت النوادي العربية تضم حتى إنشاء دولة إسرائيل تلقائياً اليهود العرب الذين ما كانوا يرون أي سبب مقنع لتأليف نواديهم الخاصة. إن الربط الحديدي بين المحرقة والمشروع الصهيوني هو القرص الصلب للابتزاز الذي تمارسه إسرائيل إزاء دول الغرب وللتدجين الإرادي التي سلّمت به الحركات السياسية التقدمية الأوروبية، وخصوصاً العريقة منها التي نشأت قبل الحرب العالمية الثانية والتي كفّرت عن ذنوبها (التآمر على مواطنيها أو التخاذل عن حمايتهم) بتصدير المشكلة إلى فلسطين. في المقابل، الأحزاب التقدمية التي نشأت بعد الستينيات ـــــ أي بعد ظهور المقاومة الفلسطينية ـــــ هي أقل خضوعاً للإرهاب الفكري الصهيوني، فتراها تتضامن مع الفلسطينيين لأنها ترى تلقائياً بعيني امرأة من غزة أو من جنين المأساة ذاتها لامرأة خارجة من معسكر أوشفيتز أو داشو.
إزاء وضع كهذا، صارت مهمة الصهيونية المركزية، عندما لا تستطيع كبح الانتقادات الموجّهة إلى سياساتها أو المتشكّكة في شرعية إسرائيل، رصد الاتجاهات المعادية لليهود وتشجيعها أو ـــــ وهذا أكثر فائدة وأضمن لها ـــــ الاتجاهات المتشككة في حصول المحرقة أو المقلّصة لهولها. أفضل نموذج لهذه الخطة هي الآلة الضخمة التي أطلقتها الصهيونية وأبواقها الغربيون ـــــ وحتى صحف محترمة ـــــ عندما نسبت إلى محمود أحمدي نجاد عبارة «محو إسرائيل من الخريطة»، (وللأمانة، لم يكن يومها قد قال شيئاً عن إسرائيل ولا عن المحو أو عن الخريطة، أصلاً لم يقل شيئاً يومها، بل استشهد بالإمام الخميني الذي كان قد قال «كالاتحاد السوفياتي، ستُفتِّت أوراق الزمان النظام الذي يحتل القدس»)، ولم يُفد بعد ذلك أي تصويب أو نفي. مهما يكن، المقاربة التي تحاول أن تنفي المحرقة أو التقليل من هولها (وهنا أحمدي نجاد وغيره ليسوا بريئين)، معتقدة أنها بذلك إنما تطعن في مشروعية إسرائيل، تقع في الشرك التي نصبته لنا إسرائيل ذاتها، فنترك المحرقة، بما هي جريمة ضد الإنسانية واليهود وغيرهم، وقفاً لإسرائيل دون غيرها، توظّفها لمصالحها دون غيرها.

مهمتنا المركزية اليوم هي الفصل بين المحرقة والصهيونية أو الوصل بين المحرقة وفلسطين

من كتب جوزف سماحة القليلة «سلام عابر» (دار النهار 1996) الذي كرّسه لتشريح اتفاق أوسلو. وللكتاب عنوان آخر «نحو حل عربي للمسألة اليهودية»، لأن جوزف كان يرى أنه صار قدر العالم العربي (الذي مثّل نموذجاً حضارياً للتعامل مع اليهود قبل تأسيس الكيان الصهيوني، وكوفئ بمأساة فلسطين) إذا أراد يوماً أن يستعيد حقوقه أن يوجِد حلاً عادلاً وحقيقياً للمسألة اليهودية.
ليست المشكلة «يوميات آن فرانك» التي يجب قراءتها والتأمل فيها (وقال عنها نلسون مانديلا إن قراءتها «ضاعفت شجاعته وعزيمته أيام السجن»)، والمشكلة ـــــ مرة جديدة ـــــ ليست «المحرقة»، بل احتكار الصهيونية لها. بسبب المحرقة، نجحت إسرائيل في حرمان الفلسطينيين من حلفاء محتملين لهم، لم يبدأ النضال الفلسطيني في استعادتهم إلا بعد جهد جهيد استمر عقوداً، يستعيدهم الآن تدريجاً. حذار من أن نخسر مجاناً اليوم حلفاء لنا عرفوا التمييز دون فضلنا بين تنديدهم بالمحرقة وتضامنهم مع فلسطين، لا بل رأوا في مأساة الأخيرة الترجمة المعاصرة للأولى. مهمتنا المركزية اليوم هي ـــــ لا فرق ـــــ الفصل بين المحرقة والصهيونية أو الوصل بين المحرقة وفلسطين. الفلسطينيون (وغيرهم من معذّبي عالمنا اليوم) هم ورثة المحرقة الشرعيون. آن فرانك هي يهودية فلسطينية.
أين أنت يا جوزف سماحة لتساعدنا في فك الحصار، لا حصار إسرائيل فقط، بل أيضاً حصار التخلّف والتفاهة في صفوفنا.
* من أسرة «الأخبار»