اشتهرت المناطق المسيحية من عكار، ولا تزال تشتهر، بإنتاج العرق البلدي. إلى جانب كونها عملية رابحة من ناحية، وتوفر نوعية مميزة من العرق، فإن عملية استخراج تلك المادة تتضمن طقساً اجتماعياً حميماً: سهرة «الكركي»
عكار ــ روبير عبد الله
إلى طاولة الطعام، بجانب آلة استخراج العرق البلدي التي يستخدمها للتقطير وتسمّى «الكركي»، يجمع جورج البيسري، من القبيات، الأصحاب والأصدقاء، والأخصام في السياسة أيضاً. فرئيس البلدية كان أول الحاضرين، بالرغم من اقتراب موسم انتخابات المجالس البلدية التي يصطف فيها جورج إلى جانب خصم ضيفه فيها. إلى جانب تلك الطاولة الجامعة، يُستخرج العرق البلدي.
ويمر إنتاج العرق بمرحلتين: في المرحلة الأولى يجري استخراج مادة الـسبيرتو، ومن ثم يستخرج العرق في المرحلة الثانية. إيليا أنطون، الذي ينتج العرق لاستهلاكه الشخصي ومن أجل بيعه في الوقت نفسه، حيث يبيع الغالون منه بـ75000 ليرة، يؤكد «العرق الصناعي ما بدوقه ولو كان ببلاش، لأنني لا أعلم مم يصنع». ويحدد أنطون إجراءات عملية الإنتاج الناجحة وشروطها، وأهمها البطء، بمعنى أن يأخذ إنتاج الغالون الواحد 3 ساعات ونصف ساعة من الوقت. والمهم أيضاً في رأيه أن يكون العنب في الأصل حلو الطعم، وأن يكون العرق «مثلثاً» أي أن يجري تقطيره ثلاث مرات.
ولكن للوقوف على رأي أهل المعرفة العلمية، وفي الوقت نفسه أصحاب الخبرة في هذا الشأن، قدم إيلي جريج، مدرس مادة الرياضيات، وجهة نظره. فاعتبر أولاً أن الإنتاج المخصص للبيع تشوبه شائبة أساسية، يستحيل على المنتج تجاوزها، لأن كلفة الإنتاج تكاد تقارب في هذه الحال كلفة المبيع. والشائبة تلك تتمثل بعدم فصل المواد الصلبة عن السائل في العنب، لأن المواد الصلبة تتضمن نوعاً من السبيرتو يحتوي على نسبة الكحول الأعلى وبالتالي ينتج كمية كبيرة من العرق لاحقاً. وهنا تبدأ الجودة بالتراجع عندما يرغب المنتج بغرض البيع بالاحتفاظ بالمواد الصلبة من عنقود العنب وتسمى «الحمشلة»، ليحقق ربحاً معقولاً في نهاية المطاف. فالمواد الصلبة تحوي مادة الميتان التي تتحول بعد عملية الاستخراج إلى الميتانول وهي تحدث بعد تناولها صداعاً في الرأس تظهر أعراضه، وخصوصاً في اليوم التالي. هنا، يتدخل أحد المزارعين القدامى، جوزيف سركيس، في الحديث، ليمازحه مزاحاً لا يخلو من الجد قائلاً «هذا كله كذب بكذب فالحمشلة تحتوي جوهر العنب ونحنا يا حبيبي نستخرج العرق قبل أن تولد أنت». ويضيف جريج أن حلاوة العنب لا علاقة لها بالعرق المستخرج، لأنه في سياق عملية التقطير يبقى السكر في الأسفل ويجري التقاط السبيرتو في وعاء آخر. إذاً نضع سائل العنب في «الكركي» والكركي على اختلاف أنواعها وأحجامها، هي في النهاية جهاز للتقطير. في الجولة الأولى نحصل على مادة السبيرتو. وفي الجولة الثانية نحصل أيضاً على المادة نفسها، ولكنها تكون أكثر نقاوة. وهنا على مستخرج العرق اقتناء ميزان لقياس نسبة الكحول في السبيرتو تمهيداً للجولة الثالثة والأخيرة. ففي هذه المرة تضاف مادة اليانسون وهي مادة حاسمة في تقرير نوع العرق وجودته.
إن استخدام الميزان ضروري من أجل التحكم بكمية المياه التي تضاف إلى السبيرتو، إذ يستحسن أن تكون نسبة الكحول 20 بالمئة. بعدها، يصار إلى وضع كمية من اليانسون تحتسب بحسب نوعيته. فإذا كان من النوع الجيد، يوضع كيلوغرام واحد في مقابل كل غالون من السبيرتو إذا كانت نسبة الكحول في هذا الأخير 65 بالمئة. بخلاف ذلك، يجري تعديل كمية اليانسون زيادة أو إنقاصاً وفق نسبة الكحول في السبيرتو انطلاقاً مما يسمى بالقاعدة الثلاثية.
ويسترسل جريج في شرح أنواع اليانسون، معتبراً أنها تنقسم إلى أربعة أنواع متدرجاً من الأفضل إلى الأسوأ. فيضع اليانسون الشامي في المقدمة، يليه البقاعي، ثم الحمصي وأخيراً التركي، الذي يعتبره الناس أحياناً عن خطأ أنه الأفضل نظراً لكبر حبته. ولهذا التقسيم مبرراته العلمية أيضاً، منطلقاً من كون البيئة الفضلى لزراعة اليانسون هي البيئة الصحراوية، لذلك كانت بادية الشام المكان المفضل. ولتأكيد صحة ما أورده يلجأ جريج إلى سرد قائمة الأسعار سرداً تقريبياً، فيقول إن الحكومة السورية حددت سعر الكيلو الشامي منه بـ310 ليرات سورية بينما سعّرت الحمصي بـ160. ولأن السوق اللبنانية، وخصوصاً في البقاع والشمال، تتأثر بأسعار المنتجات الزراعية السورية، جاء سعر كيلو اليانسون البقاعي بحوالى 250 ليرة سوريا، أي في موقع الوسط بين الشامي والحمصي. كما جاء سعر الكيلو التركي بحدود الـ120 ليرة سورية.
بعكس سائر الطقوس القروية والبلدية، وهي أعمال آخذة في التراجع لمصلحة الإنتاج السلعي، لا يزال إنتاج العرق البلدي يمثّل جزءاً من الاقتصاد المنزلي وطقساً مهماً من طقوس المجتمع المحلي.