هي خطوة صغيرة على درب طويل يسلكه بشجاعة منذ عقود أهالي المخطوفين، لكنها في الوقت ذاته خطوة هائلة نظراً للظروف العامة، فأن تحكم محكمة بتصوير كامل تحقيقات لجنة تقصّي الحقائق الأولى في مصير المفقودين، المخفية عن عيون المواطنين والموجودة في أمانة مجلس الوزراء، فذلك يعني أن القضاء يعود «ملجأ أمان لكل من يتنكّر النظام السياسي السائد لأوجاعه»
ضحى شمس
في 23 تشرين الأول المنصرم، أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن حكماً إعدادياً في إحدى الدعويين اللتين أقامتهما في 29 نيسان الماضي لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان ولجنة دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد). الدعويان أُقيمتا لتحديد مواقع مقبرتين جماعيتين ذُكرتا صراحة في تقرير لجنة تقصي الحقائق الأولى التي ترأسها العميد الركن سليم أبو اسماعيل في عهد حكومة الحص (أُلفت في 21 كانون الثاني 2000)، وقد طالب المدّعون تسييج المقبرتين في محلة مار متر بالأشرفية وفي مدافن الشهداء في حرج بيروت وتعيين حارس قضائي عليهما، إلى أن يُعرف مَن مدفون فيهما. أما الحكم (الإعدادي في الدعوى الأولى)، فيقضي بتكليف كاتب المحكمة تصوير كامل التحقيقات الموجودة في أمانة مجلس الوزراء، بما فيها صورة عن التقرير الطبي الصادر عن لجنة الأطباء الشرعيين المكلفين.
ومع أننا في أيام الصواعق والسيول، إلا أن الخبر وقع وقوع المطر على الأرض الظمأى، وخصوصاً ممّن يظنون أن أبناءهم مدفونون في إحدى تلك المقبرتين. هكذا، لا يُخفي قريب لأحد المخطوفين من «جماعة إيلي حبيقة»، ممّن يُظَنّ أنهم صُفّوا ودُفنوا في مار متر إثر الاشتباكات بين حبيقة وسمير جعجع عام 1986 عقب الاتفاق الثلاثي، لا يخفي الشاب فرحة حزينة. وبعد أن يوضح لنا الأسباب الإنسانية التي تدفعه إلى عدم البوح باسمه «خوفاً على والدة الشاب التي لا تزال تعدّه مفقوداً لا ميتاً»، يقول: «ليت الحكم ينطبق على كل المقابر الجماعية في لبنان، لا على هاتين المقبرتين فقط». ويضيف: «تذكرين المقبرة التي نُبشت في كسروان؟ حصل في قصتها ما حصل دائماً: بمعنى اطمروا امحوا انسوا». ويقول الشاب الذي سنسميه «أنطوان» إن المشكلة «أننا غير متأكدين إن كان حياً أو مدفوناً هناك، أو رُمي بعد ربطه بأثقال في مياه الحوض الخامس». ويتابع: «في ظلّ عدم وجود جثة أو بقايا لإجراء فحص الحمض النووي، كيف سنعرف مصيره؟ وبالنهاية لِمَ أقول إنه ميت، ما دام لا إثبات على وفاته؟ لدينا حق نحن المواطنين والأهل بالمعرفة». لكن ألا يكرّس الحكم هذا الحق؟ يقول: «أكيد، وهو حكم عظيم وسابقة، لكن إن لم تكن هناك إرادة سياسية فلن تنفذ أية أحكام قضائية».
وأمس، أصدر كلّ من لجان أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، أهالي المعتقلين في السجون السورية، دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) والمجلس اللبناني لحقوق الإنسان بياناً علّقت فيه على حكم القاضية الحسن.
وبعد شرح خلفية الدعويين واستنادهما إلى تقرير لجنة تقصّي الحقائق الأولى، وإلى حق ذوي المفقودين بالمعرفة، الذي بات مبدأً قانونياً مكرساً دولياً (...) وبمعزل عمّا ستؤول إليه هذه الدعوى، ومع احترامنا الكلي لمبدأي حيادية القاضي واستقلاليته، يهمنا، من باب الشفافية، إبداء الأمور الآتية:
أولاً، يمثّل هذا القرار، بحدّ ذاته أو بما يعدّ له، اعترافاً بحق ذوي المفقودين بالمعرفة، وذلك من زاويتين: حق الاطلاع على التحقيقات، وحق الكشف على المقابر الجماعية وحراستها تمهيداً لتحديد هوية الأشخاص الذين دُفنوا فيها. وهو بذلك يمثّل خطوة غير مسبوقة في اتجاه الإقرار بما يعانيه هؤلاء منذ عقود، وبما يطالبون به بدءاً من لقاء الأمهات على خطوط التماس، وصولاً إلى الخيمة القائمة منذ 2005 في وسط بيروت، مروراً بحملة «من حقنا أن نعرف».
ورأى البيان أن للحكم إيجابية ثانية نابعة من قبول المحكمة لجمعيات ذوي المفقودين و«الاعتراف بحق الجمعيات ـــــ التي تقدمت هي بالدعوى ـــــ في الدفاع عن مصالح أعضائها. وهو أمر أساسي يسمح لهؤلاء بالتضامن في ما بينهم وبتوحيد آهاتهم ومطالبهم أمام المحاكم، وهو شرط أساسي لصمودهم في مواجهة محاولات سياسات النكران والإضعاف والتهميش».

للحكم إيجابية اعتراف المحكمة بحق الجمعيات في الدفاع عن أعضائها
«وانطلاقاً مما تقدم» رأى البيان «القرار وسام شرف على صدر القضاء اللبناني وبادرة أمل بقدرته على استعادة دوره حامياً للحقوق الأساسية، وملجأ أمان لكل من يتنكر النظام السياسي السائد لحاجاته وأوجاعه، وأهم من ذلك أنه رائد اجتماعي يقوّم القضايا الاجتماعية الطارئة وفقاً لموازين العدل. وحسبنا المقارنة بين جدية هذا القرار والسياق العملي الذي أخذه، واللامبالاة أو في أحسن الأحوال خطابات المجاملة أو الاستيعاب التي نضحت عن الطبقة السياسية من دون أي متابعة منذ بدء قرع أبوابها».
وأمل البيان «أن يمثّل هذا القرار نموذجاً يُحتذى بالنسبة إلى «كل من يعرف». ومن هذا الباب، ندعو بصدق جميع هؤلاء، وعلى رأسهم أمانة مجلس الوزراء، ومطرانية الروم الأرثوذكس وجمعية المقاصد الإسلامية (أصحاب الأراضي) للتجاوب مع وجهة القرار وتفهم أوجاع ذوي المفقودين والتعاون معهم لكشف الحقائق، على نحو يسهم في تغليب كلمة الحق على أي اعتبار آخر».
وفي تعليق لرئيس جمعية سوليد، غازي عاد، قال لـ«الأخبار» «إنّ الحكم يثبت أنه حين يكون هناك قضاة نزهاء، فإن القانون اللبناني قادر على حل كل المشاكل». وشرح أن الحكم «تحضيري، لأن هذه المقابر تابعة لأوقاف دينية: وما فيكي تسكري مقبرة مثل مار متر مثلاً، لذا المطلوب هو الحصول على التقرير الرسمي الذي يحدد الموقع تماماً، ما يسهّل التحرك». وأوضح عاد أنهم لا يستهدفون هذه المواقع دون غيرها إلا «لأن التقرير الرسمي ذكرهما مع مقبرتين أخريين، هما الحوض الخامس وتحويطة فرن الشباك، وقد بدأنا بالأسهل. لكنني أؤكد أننا لسنا بصدد خلق نزاع مع أوقاف الروم أو المقاصد (مالكة المقبرتين)، فنحن لم نشتكِ عليهما، بل طالبنا بحراسة وفقاً للتقرير لكشف الحقيقة بالتعاون معهما».