ضحى شمسالورقة التي وزعتها علينا مضيفة «الملكية الأردنية للطيران» على متن طائرة العودة من الأردن، استثارت إعجاب اللبنانيين. «والله منيحة، إنهم يوزعون على الآتين من البلدان الموبؤة بأنفلونزا الخنازير استمارة لمتابعة تفشي الأنفلونزا»، تقول للزميل الجالس بقربك، الذي تعجّب بداية مثلك، من هذه الورقة التي طُلب فقط إلى اللبنانيين على الطائرة ملؤها. وبما أننا كنا في حالة عاطفية من الاشتياق إلى الوطن، وبما أنه مهما كانت مآخذك على بلادك، حكومة و«أو» شعباً، إلا أن شيئاً من الفخر تسترده طبيعياً، وأكاد أقول بيولوجياً، ما إن تبتعد عنه، لأدنى إشارة إيجابية، فقد انتزعت عبارة «وزارة الصحة العامة، مديرية الوقاية الصحية» التي كُتبت مباشرة تحت «الجمهورية اللبنانية» ابتسامة فخورة منك. تملأ الاستمارة، وفي ذهنك سؤال عن سبب الاستمرار بهذا الإجراء ما دام وزير الصحة، محمد جواد خليفة، قد أعلن منذ أسابيع أن الوباء استوطن في لبنان، أي إنه لم يعد هناك جدوى من متابعة المسافرين الآتين خوفاً من أنهم جلبوا معهم الفيروس من الخارج. ومع أنك لا تجد جواباً، أو بالأحرى أنّ «الفخر» أو التعطّش للفخر بالوطن جعلك تتعامى عن الذهاب بالسؤال إلى الآخر، فإنك تملأ الاستمارة ما دامت مطلوبة. ثم تفكر في أنه ربما كان هناك ما يوجب استمرار الإجراء بالنسبة إلى الآتين من بلدان موبوءة بالفيروس، كما الأردن الذي أعلن خلال إقامتنا هناك وقوع ثالث وفاة بأنفلونزا الخنازير. إذاً، ملأتُ الاستمارة وفكرتُ ملياً قبل أن أكتب بمن يجب الاتصال «خلال الأيام السبعة المقبلة». ثم سألت المضيفة لدى مرورها: لمن نُعطي الاستمارة؟ فأجابت بأنه يجب تسليمها لمكتب الحجر الصحي في مطار بيروت. وهكذا كان.
ما إن انتهينا من معاملة دخولنا الأراضي اللبنانيّة، وتجاوزنا شباك الأمن العام، حتى توقفنا عند موظف (عسكري) آخر يدقّق هو الآخر بالجوازات (في الحقيقة لا أفهم سبب وجوده ما دام الكونترول قد انتهى عند الموظف الأول الذي طبع لك السماح بالدخول!).
وفيما كان «يفلفش» صفحات الجواز سألته: «عفواً، أين مكتب الحجر الصحي؟». يستغرب السؤال، فتشرح له أنك تريد تسليم هذه الاستمارة الخاصة بأنفلونزا الخنازير التي ملأناها على متن الطائرة، فإذا به ينفجر بالضحك، ثم يهزّ برأسه علامة «عبث»، وهو يسلمني الباسبور قائلاً بتلك اللهجة التي تشي بتعب المواطنين من عبثية الدولة: «روحي يا عمي روحي. قال مكتب الحجر الصحي قال! من زمان ما عادوا أخذوا شي. الله معك».
ولا أكتمكم القول إني استأت مما قاله العسكري. فقد أجبرني على نوع من الهبوط الاضطراري من عالم الفخر بالوطن الذي غيّبت فيه عقلي إرادياً، إلى الواقع الفجّ لوطننا الحبيب، وبسرعة قياسية كان ممكناً أن تتكسر أسناني، لو لم يكن ذلك الهبوط مجازياً. فإن أوقفت الدولة العمل بهذه الاستمارات، فلِمَ لم تُبلغ شركات الطيران؟ صحيح أنه منذ أن استوطن الوباء لبنان لم تعد مفيدةً مراقبة المنافذ الحدودية، مع أن الرقابة كانت شكلية أصلاً، بدليل أنها اقتصرت على المطار دون الحدود البرية والبحرية، لا بل إنها حتى في المطار بدت «على مضض» وانتظرت أن يتبرع سعد الحريري بثمن آلات قياس الحرارة لكي تكون فعّالة، إلا أن عبثية تلك الاستمارة كانت أشبه بنكتة شاعت أيام السادات في مصر بُعيد «عصر الانفتاح»، الاسم «الإعلامي» لتخلي الدولة عن حماية السوق المحلية "وانفتاح» البلاد على الاستيراد.
هكذا، يُحكى عن مواطن فقير أراد أن يشتري دجاجة من التعاونية التي تسمى في مصر «جمعية»، لكنه فوجئ بأنّ «الجمعية» التي يعرفها، القديمة الأشبه بمخلّفات النظام الاشتراكي، قد حلّ محلها مبنى فاخر. يدفع الباب ويدخل ليجد موظفات استقبال يلبسن زياً أنيقاً موحداً، ويرطنّ باللغات. ينبهر المصري الفقير بتلك الفخامة ويخرج بسرعة، إلا أن الموظفات يلحقن به «لأ مش غلطان يافندم، هنا الجمعية، اتفضل عايز إيه؟»، يقول على استحياء إنه يريد «فرخة». فتسأله الموظفة: مذبوحة أو حية؟ فيجيب: بالطبع مذبوحة! فتشير إلى الطابق الأول بكل تهذيب. يصعد السلم الكهربائي إلى الطابق الثاني، وهناك تسأله موظفة أنيقة أخرى إذا كان يريد فرخته منتوفة الريش أو بريشها، فيجيب مستغرباً: منتوفة طبعاً، فترجوه أن يتفضل إلى الطابق الثالث. وهكذا دواليك، كان كل تفصيل يجعله يصعد طابقاً علامة الاختصاص والتفاني في الخدمة: فرخة مقطّعة ولا حتّة واحدة؟ مسلوخة أم غير مسلوخة؟... إلى أن وصل إلى الطابق الرابع عشر والأخير. يشرح وهو يلهث للموظفة: أنا بتاع الفرخة المذبوحة المنتوفة المقطعة المسلوخة... إلخ. فتجيبه وقد اتسعت ابتسامتها: «من الوريد إلى الوريد»: بصراحة يا فندم، ما فيش فراخ، إنما إيه رأيك في النظام؟