ما إن يبدأ شهر أيلول بطي صفحته إيذاناً بدنو الشتاء، حتى يبدأ مصطافو الضنية بمغادرتها تباعاً، باستثناء قلة ترى أن أوائل تشرين أفضل ما في الصيفية. لكن النازحين من جرد الضنية لا يقتصرون للأسف على المصطافين
الضنية ـــ عبد الكافي الصمد
يحرص إبراهيم الصالح، الشيخ الستّيني، على إمضاء تشرين في بلدة بقاعصفرين، المصيف الرئيسي لأغلب أبناء طرابلس عاصمة الشمال القريبة. لكن هذا النزوح شتاءً من الضنية لا يقتصر على المصطافين فقط. فقسم كبير من أهالي المنطقة يقفلون أبواب منازلهم في بلداتهم تباعاً مطلع تشرين الأول، ولا يتفقدونها إلا نادراً في عطل نهاية الأسبوع، ليتوجهوا إلى منازلهم في مدينة طرابلس وأطرافها، الأمر الذي جعل بعض القرى والبلدات، في المناطق الجردية تحديداً، خالية إلا من عدد قليل من المواطنين، أغلبهم من كبار السنّ وذوي الإمكانات المالية المتواضعة. فأين يذهب هؤلاء؟
ومع أن نزوح أهالي الضنية شتاءً إلى طرابلس ليس جديداً، إلا أنه تحوّل إلى ظاهرة في العقدين الأخيرين، بسبب «عدم وجود فرص عمل، وندرة المؤسسات التربوية الجيدة، ما أسهم في رفع منسوب النزوح»، على حد قول محمود الصمد (35 عاماً)، المقيم في بلدة بخعون، كبرى بلدات المنطقة سكانياً، والذي يفضل البقاء هنا على مدار السنة.
وإذا كان د. غسان يوسف يرى أن «الإقامة في الضيعة (بخعون) في الشتاء أفضل»، مبرّراً أنه «عندما كنا ندرس في الخارج كانت الجامعة تبعد عن سكننا أكثر من نصف ساعة بالسيارة»، فإن مؤشرات النزوح الشتوية من الضنية تبدو واضحة المعالم في بلدة نمرين الجردية، التي «كان عدد طلاب المدرسة الرسمية فيها أواخر السبعينيات 150 تلميذاً، وبات اليوم بحدود 135 تلميذاً فقط بسبب نزوح أغلب أهلها إلى الساحل، حيث أسسوا هناك حياة اقتصادية واجتماعية تكاد تكون طبق الأصل عن بلدتهم»، حسب تعبير طلال عربس الذي تقتصر زيارته لبلدته نمرين على أيام قليلة في الصيف.
بموازاة ذلك، فإن حركة النزوح من البلدات الجردية، مثل السفيرة، كفربنين، قرصيتا، بيت الفقس، بقاعصفرين طاران وغيرها «تفوق بنسب كبيرة النزوح من البلدات الوسطى أو القريبة من الساحل كبخعون وكفرحبو وعزقي الخ. بسبب وعورة الطرق وبعدها، ولأن قطع مسافة 40 كيلومتراً يحتاج إلى نحو ساعة ونصف»، وفق وصف الدكتور علي لاغا رئيس قسم الدراسات العليا في جامعة الجنان في طرابلس.

من تابعوا دراستهم لم يجدوا حتى وظيفة مناسبة في الريف
ومع أن تأهيل الطريق الرئيسي في المنطقة أخيراً، وقرب الانتهاء من إنجاز طريق رئيسي آخر يربط بين الوسط والجرد (طريق بخعون ــــ طاران)، ساعدا في تأمين التواصل على نحو أفضل؛ فإن لاغا، وهو ابن السفيرة كبرى بلدات جرد، لا يرد «تفاقم حالة النزوح إلى الطقس القارس شتاءً، وتكاليف التدفئة»، بل إلى «تشتت الملكية الزراعية وتوزعها بين الورثة». فحسب رأيه من «تراجع دخله بدأ البحث عن مصدر آخر في المدينة، ولاحقاً كان النزوح بسبب الالتحاق بالجامعات والمدارس»، لكنه أشار إلى أن من «تابعوا دراستهم وتأمنت لهم قدرات علمية لم يجدوا وظيفة مناسبة في الريف.حتى أنك لا تجد في المؤسسات الخاصة موظفاً مضموناً». وفيما يلفت لاغا إلى أن «عدم مراعاة الجهات الرسمية المعنية لظاهرة البناء غير المرخص، ومعالجته بعد أخذ خصوصيات المنطقة بعين الاعتبار، أسهم في نزوح الجيل الجديد بعدما باتت أراضيهم مشاعاً»، يشير إلى أن «النازحين من أصحاب الدخل المحدود والإمكانات العلمية والمهارات المتواضعة، أقاموا على دفعات في مناطق على أطراف المدينة، في ما أصبح يطلق عليه تسمية «أحزمة بؤس» أو «بؤر ريفية»، في أبنية أغلبها مخالف ومكتظ بالسكان، ما أوجد مشكلة مزدوجة إن بالنسبة لأهل المدينة الذين لم يستوعبوا حركة النزوح جدّياً منذ البداية، أو سكان هذه «البؤر» الذين لم يندمجوا داخل المدينة ويتفاعلوا معها تفاعلاً كافياً من جهة، باستثناء فئات المتعلمين والميسورين، عدا أنهم باتوا غير قادرين على العودة إلى قراهم للانطلاق في دورة حياة ريفية جديدة، وخصوصاً بالنسبة للجيل الجديد ــــ الثاني منهم».