ضحى شمس يكاد الأمر لا يصدق حتى لمن رآه بعينيه. ومن المنزل الى المكتب مرورا بعيادة طبيب، رويت لي القصة ثلاث مرات: في السرفيس، رواها سائق عجوز بأسف وسخرية، في العيادة، حيث بادرتني الطبيبة وما ان انتهت الجلسة، «بالمناسبة، هل رأيت أمس مراسلة «نيو تي في» امام المستشفى الحكومي؟» ثم روت القصة ذاتها التي رواها السائق، ثم في المكتب أعادها علي بعض الزملاء. ولكن، ما الذي حصل فعلا على شاشة امس؟
بإختصار، إرتأت مراسلة «نيوتي في» التي كانت مكلفة بالتغطية من امام مستشفى بيروت الحكومي، اي بين الأهالي المنتظرين للتعرف على جثث اولادهم، ان تستضيف في مقابلة على باب المستشفى احد ..الفلكيين! تظن للحظة انها استضافته لأنه اتى لسبب ما يتعلق بالكارثة، لكن لا. فالصبية التي سلمتها «نيو تي في» الهواء المباشر في قضية حساسة مثل هذه، استضافت الرجل لأنه «كان قد تنبأ» كما قالت، بالكارثة في إحدى سهرات ما قبل ليلة رأس السنة! هنا ساسوق الحوار كما تواترت عليه الروايات:
المراسلة: (متوجهة الى زميلتها في الستوديو) بالصدفة، شفنا هون الفلكي سمير زعيتر (تلتفت الى الرجل بميكروفونها) الذي كان قد تنبأ بسقوط طائرة هذه السنة في لبنان». (ثم تتوجه الى الضيف) كنت قد تنبأت بسقوط طائرة في لبنان، وبالفعل زبطت معك. هل هذا هو المشهد اللي شفتو وتنبأت فيه؟
الفلكي سمير زعيتر: لا بالحقيقة انا شفت كارثة اكبر.
المراسلة: وهل تتنبأ انو رح نلاقي الصندوق الاسود؟
يصفن قليلا لإحساسه لا شك بالمسؤولية والخطورة خاصة انها شهدت له انها «زبطت معه» ثم يقول: اكيد رح يتلاقى الصندوق الاسود، خلال اربعة ايام او خمسة، بيتلاقى اكيد مع جسم الطائرة.
المراسلة: يعني زبطت إحدى تنبواءتك؟
زعيتر: أيه بس رح يصير كتير حوادث بالعالم. وانتو الصحافية رح توقفوا كتير امام ابواب المستشفيات.
المراسلة: وانت ليش هون؟ عندك حدا هون؟ فقدت حدا؟
زعيتر: لا والله، انا جاي بس اتضامن مع أهل الضحايا!
هكذا إذا! الفلكي «جايي يتضامن مع الضحايا»، امام التلفزيون بالطبع. التلفزيون الذي تنبأ من على الشاشة التي استضافته ان كارثة جوية ستحصل في لبنان.
في البداية أقنعنا انفسنا بان هذا الحوار السوريالي بتوقيته ومضمونه يؤشر للاخطاء التي تقع فيها التلفزيونات خلال البث المباشر، وحاجتها الى مواصلة التغذية. لكن، ان يكون المباشر مناسبة لنكتشف خفة غير محتملة، فهو امر لا تتحمل مسؤوليته الفتاة، التي لن نذكر اسمها، مع ان كل الناس شاهدت ما حصل. فالمسؤولية تقع على الإدارة التي أختارت صبية صغيرة لا تفقه حتى ربما معنى الموت، وانشاءلله ان لا تفقهه ابدا، للوقوف في مكان حساس مثل هذا.
وإن كنا نتفهم الضغط الذي تتعرض له غرف الأخبار في احداث مثل هذه، الا ان احدا لا يجبرها على استمرار الهواء المباشر.
لكن وقبل ان استطرد في تحليلاتي المهنية، روى لي زملاء ممن تابعوا عبر الشاشات كارثة الطائرة، ان القصة أعلاه ليست الوحيدة، للأسف. تسألهم على اي شاشة؟ وانت تتوقع تسمية تلفزيونات أخرى. وإذ بهم يؤكدون ان كل القصص التي سمعوها كانت على ...نيو تي في! هكذا، روت زميلة ان مراسلة محترفة مثل كلارا جحا، لم تتورع عن استخدام العبارة التالية في استهلالية رسالتها يوم الفاجعة:» صدق المنجمون ولو كذبوا»! في إشارة ايضا الى متابعتها للموضوع ذاته! اما نشرة امس (الأول) المسائية، فقد استضافت فتى اسمه هادي غندور(9 سنوات) لأنه هو الآخر «تنبأ» بسقوط الطائرة. هكذا قال في المقابلة «انا ما حلمت، تخيلت أنو رح توقع طيارة وتحترق، وما كان بدي روح على المدرسة لأنو رح يرجعونا، وهيك صار يوم الاثنين». وبما ان الحجاب كان مرفوعا عنه، فقد استغلت المقابلة هذه «الفرصة» لتسأله وليتنبأ ان حربا اسرائيلية ستقع على لبنان، ولم ينس بالطبع ان يؤكد لنا انه «تخيل» اننا انتصرنا.
ما معنى كل هذه الخفة؟ اراد تلفزيون الجديد لنفسه ان يكون لاعبا تشويقيا بين الشاشات اللبنانية، وهو شيء لا بأس به لمن يبحث عن مكان فريد لنفسه. ولكن ما الذي يمنع التشويق المهني والمحترف من الوقوع في الخفة؟ او على الاصح: من يمنع التشويق من التحول الى شيء تمجه الأذواق؟ ليست القضية قضية شاشة واحدة، فاعراض الانزلاق الى الابتذال في الصحافة التشويقية تتكرر حتى في اكبر المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية. لكن كل واحد يزعل على «اللي ألو» اليس كذلك؟ وفي النهاية، لم لا يتباهى زعيتر امام المستشفى أن كان وزيرا سابقا مثل أحمد فتفت يؤكد لنا ان الصندوق الاسود «رح يلتقى خلال 24 ساعة؟»