تفاعلت قضية بيع منزل الرئيس الراحل فؤاد شهاب في جونية، لتحويله إلى مطعم، بدلاً من ترميمه، كما نص ترخيص البلدية. الفضيحة الإعلامية التي أثارتها الحركة الثقافية بانطلياس، استطاعت أن توقف الأعمال وتستصدر من الدولة قراراً باستملاك المنزل التاريخي
جونية ــ ريتا بولس شهوان
عمليّة «التذكر»، ومحاولة تركيب صورة ماضي البلاد كجزء من الهوية الوطنية، أمر شديد الصعوبة في أي بلد مستقر الهوية، فكيف بنا ونحن لا نتفق على ما يجب الاعتراف به من الذاكرة وما يجب رميه؟ فالذاكرة الوطنية الكاملة التي تشمل كل مراحل الجمهورية اللبنانية، غير مدوّنة بعد، والدولة سحبت يدها من هذه العملية وتركت الأيادي الأخرى تعبث بذاكرتنا فتنتقي ما تشاء وتخرب ما تشاء كأنه ما كان. وقد يظهر استخفاف الدولة، عكس ما تعلنه من نيات، في موضوع مثل فضيحة بيع منزل الرئيس الراحل، أبي المؤسسات في لبنان، فؤاد شهاب، إلى جهة تجارية تريد بكل بساطة تحويله إلى... مطعم! فالدولة لم تعمد مثلاً إلى إصدار قرارات استملاك منازل الرؤساء التاريخيين أو تصنيفها للحفاظ على الذاكرة المشتركة. وبالتالي كان بيت الرئيس فؤاد شهاب الأساسي في جونية آخر ضحايا تقصير الدولة اللبنانية، بعدما باعت وريثته الوحيدة، ابنة شقيقه، البيت الصيف المنصرم.
فقد شرع أصحاب الملك الجدد في أعمال بناء غيّرت ملامح الخريطة الأساسية للمنزل من الداخل، كما يشاهد بأم العين من يدخل البيت، وكما يؤكد الجيران. وهو أمر أوضحته حتى الحركة الثقافية ــــ أنطلياس في بيان لها. وكان السبب في تسليط الضوء على هذه القصة ما ذكر عن «محاولة تحويل منزل اللواء فؤاد شهاب إلى مطعم، وأعمال التهديم والتغيير لمعالمه». وتبعاً لذلك، أصدرت بلدية جونية، أول من أمس، قراراً بإيقاف عمليات الترميم فيه، واستملاك العقار بعد تدخل رئيس الجمهورية ميشال سليمان وعدد من فعاليات منطقة كسروان. علماً بأن قرار الاستملاك يتطلب توقيع مجلس الوزراء ليصبح نافذاً كلياً.
إذاً، بعد مفارقة «الرجل الصامت» الحياة، منذ أكثر من ثلاثة عقود، يكاد منزله اليوم يكون في عداد الأموات. لم تعد ترافقه سيارات «الفولز فاغن» التابعة للمكتب الثاني ليلاً، بعد انتهاء دوام الزيارات الرئاسية، من القصر الجمهوري في صربا نحو منزل «المنامة» في جونيه. منزل بناه وإخوته بعد شراء بستان، قرب مدرسة المركزية في جونية وقسموا الأرض على الإخوة الثلاثة: شكيب، فؤاد وعبد الله. فؤاد الأخ، أراد المنزل متواضعاً. غرفة نوم صغيرة بالكاد اتسعت لسرير حديدي يشبه أسرّة العسكر، لم يبق منها بعد أعمال التدمير سوى آثار نشّ على السقف، تناقل قصتها المقربون منه، وخصوصاً أن «رجال البيت»، أي رئيس الجمهورية آنذاك، عجز عن إيقاف النش. ولو استطاعت بقع عفن الرطوبة في سقف غرفة النوم لسردت أقصوصة حب الرئيس وزوجته، وبعض ما أخبره سالم عقيقي (خمسة وسبعون عاماً) جار الرئيس لسبعة عشر عاماً: «كان يجلس يومياً و«ست الستات» (أي زوجته الفرنسية ماري روز بواتيو) على مقعد قرميدي يتسع لهما فقط، في الحديقة. يمضيان النهار بطوله بين الأشجار في عطلة الأسبوع. لم يكن يترك يدها لدقيقة»، كان الرئيس رومنسياً جداً، ومؤمناً جداً». صباحاً، قبل توجهه إلى القصر الرئاسي في صربا، كان يركع أمام «الكابيلا» (أيقونة) حيث تمثال العذراء. هيكل «الكابيلا» ما زال موجوداً، لكنه مرمي كقطعة خردة في ما كان يوماً حديقة «الرئيس»، بين جذور شجر ارتفعت عن مستوى الأرض، بسبب جفاف تربة طالت مدته. آثار لعلها لجرّافة أو آلية أخرى، تعذر عليها الدخول من الباب الرئيسي للمنزل، فحطمت جدار «تصوينة البيت». يؤكد سالم ساخراً أن تلك كانت الخطوة الأولى في عملية «الترميم». يبتسم وكأنه يريد إضافة تفصيل ما على كلامه. ثم يشرح لـ«الأخبار» أن المالكين الجدد كانوا يحملون تصريحاً بالترميم من البلدية. يستمر بالكلام بأسلوب تهكمي: «أعمال ترميم قال! لو كانوا عن جد يريدون الترميم ليش وقفت الأشغال؟ ولم استملكت البلدية البيت، بعد هالضجة الإعلامية!».
حاولت «الأخبار» سؤال رئيس بلدية جونية عن كيفية حصول أصحاب الملك الجدد على تصريح الترميم. إلا أنه تعذر علينا الحصول على جواب منه بعد اتصالنا به مرات عدة. توقفت ورشة «الترميم» المزعوم في المنزل، لكن الأضرار لا تقدر: بقايا أثاث ملقية على الدرج: من «الأباجور» الأزرق، إلى الأبواب الخشبية التي ما زال بياضها ناصعاً، تدمير كل الجدران الفاصلة بين الغرف، مما يتعارض مع مضمون تصريح الترميم الذي يسمح فقط بتدعيم الشرفات والترميم أي إعادة البيت إلى ما كان عليه. والنتيجة: قاعة كبيرة واضح الغرض منها. نعثر قرب ما كان نافذة الحمام (بحسب ما تشير التمديدات الصحية) على خريطة مفصّلة لمطعم من الداخل. يبدو أن ما تردد عن لسان الجيران، أن منزل فؤاد شهاب سيتحول إلى مطعم «المير»، كان صحيحاً. وبعد تصوير الخريطة وسؤال المهندس المدني، باسم نزق، عنها، أكد أنها خريطة مطعم، فالرسم يحدد تفاصيل توزع طاولات الأكل في أرجاء المنزل. ويؤكد الجيران لـ«الأخبار»، أن أصحاب المنزل الجدد بعد إتمام عملية الشراء في فصل الصيف، باشروا الأشغال في المنزل. وبعد ذلك، تقدموا من بلدية جونية بطلب «تصريح ترميم العقار وتدعيم الشرفات».
ميشال غانم، صاحب محل ملابس نسائية قرب المنزل، متعجب من سرعة ما حدث. فالكل في نظره ساهم في تشويه هذا الإرث الوطني، من الدولة التي لم تضع آلية واضحة لحفظ إرث لبنان الوطني، والبلدية «يلي مفترض تعرف قيمة البيت أكتر من الدولة، يلي

هل يتحول تاريخنا مطعماً؟ ناقصنا محلات نتبقط فيا؟
ناسيتنا!». جيران هذا المنزل لطالما افتخروا به، يتعاطفون مع الحجر وكأن البشر لم يرحلوا. يتذكرون كل شيء. كل عسكري سكن في الغرف الصغيرة المخصصة لهم قرب منزل الرئيس. تفاصيل حياة هؤلاء. اهتمام نساء العسكر بحديقة الرئيس. لم تيبس الأشجار «إنها خضراء!» ولو جزئياً، هذا ما أراد سالم عقيقي رؤيته. لعلها ترتوي من مياه الشتاء أو أن «مؤسس دولة المؤسسات» رواها بما يكفي، لتستمر في الحياة حتى بعد رحيله، تماماً كما حلم أن تكون الدولة اللبنانية. وهذا بعض من المشاريع المنفّذة للرئيس فؤاد شهاب: مصرف لبنان، مشروع لبنان الأخضر، الضمان الاجتماعي، الجامعة اللبنانية، المصرف المركزي، مجلس الخدمة المدنيّة. حال الوطن من حال منزل من «أنعش جونية، والوطن». أحد الجيران، يحاول رسم صورة فؤاد شهاب لنا. وبقامته الصغيرة، يقلد قامة الرئيس الضخمة، وحاجبيه. متحسّراً على الماضي، يخبر عن زيارة كتلة النهج، كتلة الرئيس آنذاك، إلى الرئيس فؤاد شهاب في دارته في جونية محاولين إقناعه بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية. فرفض. تغرورق عيناه بالدموع: «يمّي! ويلي على بني آدم شو بلا أصل، هلق تحول تاريخنا لمطعم. ناقصنا محلات نتبقط فيا». وبكى غياب رئيس نال واحداً وخمسين في المئة من أصوات المسيحيين وتسعة وأربعين في المئة من أصوات المسلمين، وفق استفتاء أجرته مجلة «ماغازين» الفرنسية عام 1958.


التنظيم المدني لا البلدية

في معلومات استطاعت «الأخبار» الحصول عليها، أن رئيس بلدية جونية، جوان حبيش، زار المسؤول عن التنظيم المدني في سرايا جونية وذلك الثلاثاء الماضي، ودام الاجتماع ثلاثين دقيقة. تجدر الإشارة إلى أن التنظيم المدني مسؤول عن إعطاء تصريحات الترميم ورخص البناء.
كما اتصل رئيس البلدية بأعضاء الحركة الثقافية ــــ أنطلياس بعد الانتهاء من اجتماعهم الخميس الماضي في السابع من الشهر الجاري، وهم الذين دبّوا الصوت وأعلنوا الفضيحة.
وقد أكد حبيش لهؤلاء على مضمون الاتصال الذي دار بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي دعم قرار سحب تصريح الترميم من المالكين الجدد واستملاك المنزل بغية تحويله إلى متحف.
كما أكد هيكل درغام، وهو محامٍ بالإستئناف، أن قرار البلدية باستملاك المنزل نافذ جزئياً. إذ إن إنشاء متحف أو مكتبة عامة يتطلب موافقة مجلس الوزراء ليصبح نافذاً.