تغيب عن سوق الاثنين في النبطية «الحماسة» التي كانت تتخلله والتي كانت تستبق انعقاده عبر استعدادت يتنافس فيها المزارعون والفلاحون ومربو الماشية وأصحاب الحرف اليدوية التي كانت ترتبط وثيقاً بحياة الجنوبيين
النبطية ــ كامل جابر
من فلاح يسعى للاسترزاق بفلح فدان بواسطة بقرتين يملكهما، إلى مزارع عينه على بذور مؤصلة، وراع يبادل ماشيته رغبة في تهجين القطيع؛ ومستهلك يبحث عن خضار وفاكهة وحبوب وحوائج وغلال للمؤونة تتميز في إنتاجها هذه القرية عن تلك، وباحث عن «إبداع» النحاسين والحدادين، والسكافين، كانت مقومات سوق الاثنين في النبطية محلية خالصة، وغذائية الطابع، قبل أن تتفوق فيه البضائع المستوردة على ما عداها، وخصوصاً تلك المتعلقة بالألبسة والأحذية.
لم يختف الغذاء تماماً أمام زحف تلك البضائع المستوردة، إلا أن مساحته في السوق تقلصت. فوحدها بسطات الخضار والفاكهة وبعض الحبوب «البلدية» (كالعدس والقمح والحمص والفول والسمسم والفاصولياء)، ومحاصيل الزيت والزيتون (من حاصبيا ومرجعيون) والتين اليابس (من العرقوب) والتفاح والجوز والكرز والسفرجل (شبعا) والصعتر والزهورات، إلى جانب مكانس القش والليف، في إحدى زوايا السوق، هي النماذج الباقية التي تحاكي عهداً مضى. ولا يزال المزارعون من أبناء بلدة كفررمان «يبسّطون» صباح كل اثنين، في زاوية مخصصة قريبة من الوسط التجاري، تعرف باسمهم. «خضرتهم» الطبيعية المميزة، هي من نتاج حقولهم وسهلهم، «سهل الميذنة» النامية خارج إطار الخيم البلاستيكية والأسمدة الكيماوية؛ من فجل وخسّ وهندباء وسلق وسبانخ وبقدونس ونعناع وبصل أخضر وجزر أحمر، فضلاً عن الملوخية الخضراء في أيام الموسم، واليابسة في فصول أخرى، وكذلك «ضمم» البابونج والزهورات و»مجادل» البصل الأبيض. فما يتعارف عليه كثيرون من رواد سوق الاثنين، هو أن منتجات مزارعي كفررمان وخضارهم، تنفد قبل مثيلاتها من بضائع السوق، ولو كانت أغلى منها، فمن يتقصد شراء هذه المنتجات الزراعية، هم في غالبيتهم زبائن دائمون، يعلمون ويدركون مدى خصوبة أرض كفررمان وغناها بالماء وبعد مواسمها الزراعية عن الأسمدة الكيماوية. مع العلم أن عدد مزراعي كفررمان ممن يعرضون منتجاتهم قد بدأ يتراجع هو الآخر، بسبب تراجع الزراعة المحلية وتفوق قطاع البناء الذي بات يجتاح حقول بلدة لطالما اشتهرت بغناها الزراعي.
فبعدما كانت كفررمان تصدّر دلاء اللبن والحليب بكثافة إلى سوق النبطية، بات منتوجها في هذا القطاع ضئيلاً جداً يكاد لا يكفي دكاكين البلدة خارج يوم انعقاد السوق. وتنتشر في السوق بسطات متواضعة ذات طابع غذائي محلي، منها بسطات الكعك المحشوّ بالتمر المعدة من بعض أبناء النبطية، أو بسطات للحلويات العربية. فضلاً عن معروضات للغلال والحبوب «المقطوفة» من حقول بلدات في قضاء النبطية، على نحو يحمر الشقيف والزوطرين الشرقية والغربية وعدشيت وجبشيت وغيرها.
أما سوق الماشية التي كانت تحتل حيزاً أساساً من سوق الاثنين، وتنتشر على بيدر النبطية، فقد تراجعت تماماً وتتمثل اليوم ببعض التبادل أو البيع والشراء عند تخوم حي السرايا، خارج السوق، في وقت توقفت أسواق رديفة مثل أسواق «الغلة» و«الكندرجية» و«الحدادين والنحاسين». في السياق ذاته، يعيش سوق «اللحم» مخاضاً عسيراً بعدما تبددت دكاكينه وتحولت نحو وجهات مختلفة، وخصوصاً أنه أصبح لكل بلدة أو قرية كفايتها من «ملاحم» الجزارين والقصابين.
كذلك، بات لعدد من التجار السوريين موقعهم في السوق، يعرضون فيها السكاكر والمكسرات المحمصة والبزورات أو البهارات على أنواعها.
وبسبب تعاظم عدد بسطات الأقمشة والثياب و«الفوبيجو» واللوازم والمعدات الكهربائية، فضلاً عن زوايا لبيع الكتب والمعدات واللوازم البيتية التراثية والقديمة؛ امتد سوق الاثنين نحو الغرب ومحيط النادي الحسيني بعدما كان يتركز في قلب الوسط التجاري.
يعود سوق الاثنين في النبطية، إلى العهد المملوكي، وقد ذاع صيته نحو فلسطين والجولان ومختلف المناطق اللبنانية، ليجدّ التجار العزم نحوه قبل يومين من انعقاده، حاملين بضائع مختلفة من حرف وزراعات محلية، آتية من صفد وساحل عكا وسهل الحولة بفلسطين والجولان وحوران في سوريا وبلاد وادي التيم والبقاع، ومن صيدا وبيروت؛ يحملها الباعة على ظهر الدواب والحمير أو بين سنام الجمال والخيل، ويلحقون بها قطعان الماشية والأبقار. كان السوق يحوي كل شيء من مفردات حياة أبناء القرى، من أقمشة وجلود وحصر، وحبوب وماشية وطيور، وتوابل وخضار وفواكه، وخردوات وآلات حرث وسلال وفخاريات وغيرها؛ ساهمت في تألقها أسواق دائمة كانت موازية لسوق الاثنين: سوق الغلة (حبوب ومزروعات) وسوق الماشية، سوق اللحم، سوق الحدادين، سوق النحاسين، سوق السكافين (الكندرجية) وغيرها.