معظم سكان ذلك العالم هم شباب يصطادون الهوى، ويتساجلون في السياسة وكرة القدم. تجمعهم البطالة وينامون خلف أهداب الدولة. لا طاولات مستديرة ولا مقاعد في شوارع الضاحية، لكن بالنسبة إلى هؤلاء الشباب، الحياة ليست في مكان آخر: الحياة حقيقية على قارعة الطريق
الضاحية ــ أحمد محسن
إنه منتصف الليل. لا شيء يمنع أولئك الشباب من مغادرة الشارع في تحويطة الغدير. يقلّص الصقيع عددهم قليلاً، لكنه لا يبدد الظاهرة. الشبان في أمكنتهم. لا يترقّبون شيئاً هاماً، بل يحتلون الزوايا بطريقة عبثية وحسب. يتبادلون أطراف الحديث، مستندين إلى الحيطان، وطبعاً، الزوايا هي الأمكنة الأنسب للجلوس. لا يمكن أحداً انتزاع الزوايا منهم. وللشبان، من أصحاب الزوايا، أسماؤهم الشعبية. «طُنفى» أحد هؤلاء الشبان المعروفين في «التحويطة» مثلاً. يلعب كرة القدم جيداً، وهو «حربوق» أيضاً. هكذا، يعرفه الشبّان في المنطقة. «علي جزرة» لا يحب اسمه، لكن لعنة التسمية تلاحقه منذ كان صبياً، قبل أن يتخرج من الجامعة. «أبو الدلالة» شاب آخر، قلما يرتاد الشارع أخيراً، كونه يعمل الآن لساعات طويلة و«الفيزيك» (رياضة كمال الأجسام) تستحوذ على وقته الباقي. الكثير من الأسماء، والضيوف اليوميين، من المحال القريبة، كالمريجة والليلكي، يجدون في الشارع العام متنفساً، يعوّضهم الأمكنة المكلفة، التي تفوق قدرتهم المادية المتواضعة. لم تنفع كل المقاهي التي اقتحمت الضاحية في إقناعهم بالعزوف عن احتلال النواصي. حتى العامل منهم، لا تكفيه أجرته أكثر من مستلزمات «النارجيلة والدراجة النارية».
رغم الضجيج الذي يسببه الشباب غالباً، إلا أنهم لا يسببون الأذى في معظم الأحوال. خلال الأيام القليلة المنصرمة، التي جرت فيها مسابقة كأس الأندية الأوروبية، كانت الكأس هي الحدث. وعلى مقربة من إحدى النواصي الشهيرة في «جامع العرب»، تجمع نحو عشرة شبان. دار سجال حاد بينهم حول جدوى انضمام لاعب كرة القدم البرتغالي، كريستيانو رونالدو، إلى فريق ريال مدريد الإسباني. تتفاوت حدة النقاش بين مؤيد ومعارض عادةً، ثم يتشعب الحوار الصاخب، ليطال الملاعب الأوروبية كلها. يمكن القول إن الشبّان في الأحياء مثقفون رياضياً، وأغلبهم متابع جيد للرياضة. الشبان مسالمون، على عكس الصورة النمطية الشائعة عنهم. كانوا يفرحون ويحزنون لأجل الفرق الأوروبية، فيما ينسون أوجاعهم.
لكن النقاشات قد تأخذ طابعاً آخر. الدنيا صغيرة، والشباب في الأحياء يتناقلون الأحاديث عن زملائهم في الأحياء الأخرى. هكذا، يصبح برج البراجنة وحارة حريك شارعاً واحداً. أما حي السلّم، فعالم خاص، كما يقول أحد سكانه. يعج بآلاف القصص اليومية. لذلك، يصبح ذاك الحي الضخم بكثرة عدد شبابه، ضاحية بحد ذاتها، تقيم على أطراف الضاحية الجنوبية.
وللضواحي خصائصها، حيث هناك «أبطال» من بين الشباب. أبطال يبرزون في الخلافات التي تنشب أحياناً بين الشبّان في الضواحي. في نظر فئة كبيرة من سكان الشوارع «القوي هو صاحب القلب الميت». وعلى طريقة المافيا الإيطالية، هناك عرّاب في كل حي، أو أكثر من عرّاب، يعتبره الشبّان مرجعاً لحل النزاعات، من خارج سطوة الأحزاب الموجودة، والسلطات الرسمية طبعاً. السلطات الرسمية هي «العدو» لهؤلاء الشباب. لا تتعرف إليهم إلا «أثناء قمع الدراجات النارية»، كما يقول أحد الشباب في الشيّاح، الذي لا يعرف عن الدولة ومؤسساتها شيئاً، سوى قوى الأمن الداخلي والجيش، رغم أن أعوامه تقترب من سن الاقتراع الموعود (18عاماً). دولته هي المجتمع الذي حضنه منذ كان طفلاً. ينتمي إلى تلك الأحياء الفقيرة وإلى أهلها.
في أية حال، مطالب الشبّان ليست دائماً محقة، وقد تجعل الفوضى منهم أشخاصاً سيئين، تبعاً للمعايير الاجتماعية العادية. وفي هذا الإطار، قال أحد مسؤولي اللجان الأمنية الحزبية، في منطقة مكتظة من الضاحية الجنوبية، إن سبعة شبان لا تتجاوز أعمارهم الثمانية عشر عاماً، يتعاطون الكوكايين، في شارع لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع. أطلق قنبلته هذه، في مجلس خاص، في معرض تفسيره لدعوة السيد حسن نصر الله أخيراً إلى محاربة المخدّرات ومروّجيها. استفاض المسؤول، ليعلن أن الخطر الحقيقي ليس في الكوكايين. يكمن الخطر في «الحبحبة». عدد متعاطي تلك الأقراص، تبعاً لمعلومات حزب الله، تتخطى الرقم الأول بكثير. إذاً، تنامى هذا المصطلح سريعاً في العاصمة وضواحيها، بالتزامن مع تنامي الظاهرة نفسها. وأمام هول هذا التنامي، يمكن أن تصبح زواريب الضاحية كزواريب ريو دي جانيرو، ويختلط الصالح بالطالح من أهل الشوارع. ربما يفقد الشباب سيطرتهم على اللهو العادي، فتصبح الشوارع أمكنة خطرة فعلاً.


«تفاهم» محدود ـــ غير مُعلن

رغم أن أحمد وشربل متباعدان سياسياً (الأول يناصر حركة أمل والثاني يميل إلى القوات اللبنانية)، إلا أنهما يتوحدان في الشارع، في «لحظة الحبوب» التي يتبادلانها. هنا، يظهر «تفاهم» قديم سبق الأحزاب الطائفية، في كسر جمود خطوط التماس، بين الشياح وعين الرمانة. للشياح ضيوف موسميون من الضفة المقبلة، يزورونه، بحثاً عن الحبوب الجيدة، والعكس صحيح. هذا على الأطراف، أما في عمق الضاحية، فالمشهد يختلف. السيد حسن نصر الله هو الأكثر شعبية في الضاحية الجنوبية لبيروت. الجميع يعلم ذلك. هو في نظر الكثيرين من الشبان هناك، بمثابة الأب المعنوي، الذين يسمعون كلمته في السياسة، وينتظرونها دائماً، عبر الشاشة العملاقة، ليحددوا موقفاً من الأحداث اليومية، غالباً ما يتماشى مع ما يأتي في خطابات السيد. لكن ما يقبله جزء من الشباب، في السياسة، قد لا يقبلونه في الاجتماع. ثمة فئة لا يستهان بعددها، تحبه، شرط ألا يتدخل في يومياتها. بكلمات أخرى، ووفقاً لشهادات جزء من شبان الضاحية، الذين هم خارج الأطر التنظيمية لحزب الله، ويناصرونه دائماً، فإن «معركة» الأخير المقبلة معهم (الحملة ضد المخدرات)، لن تكون سهلة. أحدهم كان أشد وضوحاً من السيد نصر الله نفسه. أعلن بوضوح: «كلما اتضح لنا أن حزب الله سيتركنا لمواجهة الدولة وحدنا، كلما ازدادت شراسة مقاومتنا»، مذكراً بأن الحزب «عدو» قديم لهم في هذا الموضوع بالذات، وأن الأمور لن تتغير. الشاب العشريني ليس في وارد التراجع. استغرب السؤال عن تجاوب معنوي متوقع منه لنداءات نصر الله وعلق قائلاً: «من لا يهتم لأذية نفسه، فلن يهتم لأي شيء آخر»، ثم ضحك طويلاً، وتناول قرص كبتاغون «محلي ومن باب التنويع». ابتلعه وأنهى النقاش. انطلق يومه للتو.