أنسي الحاج
السين
خفتُ، وأنا أقرأ البرتغالي المدوّخ فرناندو بيسّوا، أن يجفّ قلبي ذات يوم، أن يجفّ نهائيّاً، أن تنتهي نعمة السذاجة، نعمة الاندفاع، نعمة الحماسة. الخوف نفسه يتولّاني لدى قراءة سيلين، سيوران، سارتر، ساد. ما حكاية هذه السين عند هؤلاء السادة؟ أهي سين السوداوية أم سين السمّ؟ في القاموس أن السين حرفٌ يدخل على المضارع فيُخلِّصه للاستقبال، والكلمة الأخيرة للزمخشري. وقال بعضهم إن السين للاستقبال مقابلة للنْ في النفي. ويقول «محيط المحيط»: «السين هي الحرف الثاني عشر من حروف المباني. ويقال لها بالعبرانيّة سامك وبالسريانيّة سَمكات ومعناها دعامة وذلك لأن صورتها في اللغة الفينيقيّة تشبه الدعامة. والسين في حساب الجُمَل عبارة عن ستّين من العدد».
لم نستفد شيئاً. دعامة في الفينيقيّة وتهديم وانهيار عند الأوروبيّين الخمسة. لدينا في الكتابة اللبنانيّة أربعة مشاهير أوّلهم سين: سعيد عقل، سعيد تقي الدين، سهيل إدريس وسعيد فريحه. وكان يوسف الخال، صاحب سين الوسط، يقول إن السعداء الثلاثة المذكورين ليس فيهم واحد سعيد. وأظنّها تفكهة ومن باب المعاكسة المحض لفظيّة، إلاّ في حالات معيّنة. فسعيد تقي الدين انقهر في الاغتراب وانقهر في الوطن وانقهر في السياسة لكنّه عوّض بأدبه الذي انتقم له من جميع الأعداء، وكانت سخريته صفعة لبلاهة معاصريه وعاصفة على ضحالتهم وضآلتهم. ولعلّه الوحيد، مع محمد الماغوط، الذي استمرّت موهبته الساخرة متدفّقة بعد انتمائه الحزبي، ونستثني فؤاد حدّاد (أبو الحنّ) لأننا لا نعتبر أنه كان حزبيّاً ولو كتب في جريدة حزبيّة.
ولم يكن سعيد عقل، بالطبع («بالطبع» في معناها الأصلي) تعيساً. وكان تلقيب يوسف الخال إيّاه بالتعيس من قبيل المشاكسة لما كان بينهما من نفور. والأصحّ بسبب تعالي سعيد وتجاهله يوسف ونظريّاته وشعره، رغم أن يوسف، للحقّ، كان من المعجبين بسعيد ومن المتأثّرين به، شأنه شأن أدونيس ونزار قبّاني وكثيرين سواهما، في مطلع حياتهم الأدبيّة. لا، ليس بين يدي أحد، على ما نعرف، ما يدحض نظريّة سعادة سعيد عقل، مزاجاً وكتابة. فهو شاعر فرِح وقويّ، وحتّى الحرب «الأهليّة» لم تزده إلّا قوّة وانسجاماً.
يبقى سعيد فريحه. إنه الأكثر طفولة بين السعداء الثلاثة، فيه من سعيد تقي الدين الفكاهة والظرف والسخرية، ومن سعيد عقل التفاؤل، ومن سعيد فريحه اللوعات على اختلافها: لوعات الغرام والطفر والقمار والإرهاق والخيبة والحلم والصعود والنزول. ومع هذا لا تجوز عليه لفظة تعاسة. كان أقوى منها وأكثر سطوعاً من أن تقدر عليه المرارات. كان يحزن ولكن بدون سقوط، ولعلّ أشدّ ما كان يضنيه سماجة الآخرين وبشاعة الأخريات.
الأخير في اللائحة سهيل إدريس، وهو لا يدخل في تصنيف يوسف الخال. وقد أجد فيه من ميزات سين الأوروبيّين سلاسة التعبير ومتانته، فضلاً عن صفات أخرى، كالحدّة والعنف عند الحاجة، بل والصراحة حدّ الجرح أحياناً، لكنّه كان يسعى دوماً إلى التقدّم وشعاره الإيجابيّة.
وعندنا اليوم سمير عطا الله، القلم السائغ الساحر والذاكرة السابحة السابرة. وكان يجب أن نذكر قبل الجميع اسكندر الرياشي لولا الألف المدسوسة زوراً وبهتاناً.
ما سرّ هذه السين؟ في بيتٍ شعريّ معروف لراسين ذكر لبعض إيحاءات هذا الحرف، لكنّه إذا تُرجم إلى العربيّة لا يفيد المعنى. وفيه لعبٌ على السين في اتجاه الأفاعي وفحيحها. وهكذا نعود إلى السمّ. وهناك أيضاً ساء، سادَ، سارَ، ساسَ، ساق، ساغ، سبّ، سَبَر، سَحَلَ، سخر، سرح، سَرَد، إلى آخر الحرف. وطبعاً فيه المقلب الآخر، كالسماحة والسماء والسَمَر والسَهَر، ولكنّها لا تنتمي إلى فئة دم الأوروبيّين الخمسة. ويقيناً أن أيّاً منّا إذا فكّر بسيناته سوف يُفاجأ.
إلّا إذا اقتصر الموضوع على اللغات اللاتينيّة، وليس هذا بغريب. ولن يكون التمييز العنصري الأول ولا الأخير. الأهمّ من الحروف الأمل. وأن لا تنطفئ الشمعة في الصدر إلاّ بعد مرور العاصفة، وأن لا يحلّ الجفاف قبل الرحيل...


دفاتر أدونيس
يعرض أدونيس في حديث إلى عبده وازن نشرته «الحياة» شريط ذكريات سوف تشكّل أهميّة لمؤرخي المرحلة الأدبيّة التي ملأها أدونيس بريقاً وإنتاجاً منذ أواسط الخمسينات وحتّى اليوم. والمؤمّل أن يصدر هذا الحوار المسهب في كتاب تتاح العودة إليه. أتوقّف اليوم عند إشارتين تتعلّقان بي (عدد الاثنين 22 آذار 2010): الأولى حول تغيّر العلاقة بيني وبينه. يقول: «حدث بيننا جفاء، منذ أن تركتُ مجلة «شعر». وأسند إليه يوسف الخال، بذكائه الذي يعرف عمق علاقتنا، أمر مهاجمتي بسبب انفصالي عن المجلّة». الثانية استطراد. جواباً عن سؤال «هل استمرّت القطيعة بينك وبين أنسي طويلاً؟». يقول: «قلت: جفاء، لا قطيعة. من جهتي، أحبّ أن ألتقيه، دائماً. مع أنه قيل لي إنه أسقط من كتابه «كلمات» كل ما كتبه عنّي».
توضيحاً للنقطة الأولى، كنتُ أكثر المهتمّين بوصل ما انقطع بين يوسف الخال وأدونيس، لثقتي بأن مجلة «شعر» بدون أدونيس ستكون يتيمة. والذين حضروا اجتماع المحاولة الأخيرة في منزل يوسف بشارع السادات لا يزالون أحياء. الصديق أدونيس يعرف أكثر من سواه أنّي لستُ صاحب مزاجٍ عسكريّ أو حزبي يتلقّى تعليمات. ولا يوسف الخال كان يمكن أن يُقْدم معي على تصرّف كهذا، خاصة بذكائه الذي يشير إليه أدونيس.
أمّا إذا كان المقصود اللقاء الذي جمع بعد ذلك بسنوات في منزله ببيروت معظم أركان المجلة وسمحتُ لنفسي خلاله بمعاتبته معاتبة انفعاليّة على أمور أدبيّة، فلم يكن لذلك علاقة بانفصاله عن المجلة، وكانت تلك لحظة استثنائيّة، وعلى قَدْر الثقة والمحبّة، وإكباراً منّي لدور موضوعيّ أشمل وأعظم كان في وسعه الاضطلاع به خدمةً للأدب العربي الحديث، بفضل علاقاته الإيجابيّة في العالم الغربي. وللأمانة، لقد فوجئ الحاضرون جميعاً بصراحتي الحادّة، وكان يوسف الخال أشدّهم انصعاقاً، بالضبط لأنه يعرف عمق الصداقة بيني وبين أدونيس.
وللأمانة أيضاً أذهلتني سعة صدر صاحب الدار، وخجلتُ بقلّة ذوقي حيال دماثة الرائعة دائماً خالدة سعيد. واليوم أكتشف كم كنتُ سخيفاً وظالماً بهذا العتاب.
أمّا النقطة الثانية، فكتاب «كلمات كلمات كلمات» موجود عند مَن يقتنيه، ومن السهل، بالعودة إلى الفهرست، معرفة ما إذا كان الكلام عن أدونيس قد حُذف منه أو بقي فيه.
وإذ أشكره على تنويهاته الأخرى بي، في هذا الحوار وفي أماكن أخرى ـــــ ولن أنسى أوّل تنويه بي أطلقه في الستّينات ـــــ أذكّره بما قلته له قبل أعوام على الهاتف جواباً عن سؤال طرحه عليّ: «يا أدونيس، حتّى الهواء لا يستطيع أن يمرّ بيننا».
ولا هذا الجرح المهين المتمثّل باختراع «مهمّة» مهاجمته.


ما الذي يسقط؟
حبّة القمح أكثر امتلاءً من أوقيانوسات الفراغ في مساحات الكون. لا لأنّها جميلة بل لأنّها على موعدٍ مع يد...
لولا النظر لما كان النور ولولا الرغبة لما كانت الجاذبيّة. ومَن يعرف إن لم يكن العكس كذلك صحيحاً؟ أليس النور ما استدعى النظر والجاذبيّة ما ولّد الرغبة؟ أين السلب وأين الإيجاب؟ تبادُلُ أدوار. الناس نيام، يقول حديث نبوي، الحياة حلم، يقول كالديرون، وماذا لو كان الموت هو أيضاً نوماً؟ هو أيضاً حلماً؟ أم أنّنا نعزّي أنفسنا مَحْضَ عزاء، كلمات كلمات كلمات؟
هذا الشكل الطيّب الخِداعِ الذي هو الجسد يظلّ يتقلّب بين البشاعة والمعجزة، تارةً يُرعب بسرعة زواله وطوراً يخلب اللبّ بظلالٍ وأجنحة تعطي مَن يراها أو يحلّق بها طعم اللذّة القصوى، ملغيةً نكهة الرماد ومنسيةً كل شيء إلّا رحمة النسيان.
ولا نعرف إن كنّا سراباً في فراغ أو انعكاساً لما يفوقنا ويُمْسكنا في الفسحة المخيفة بين رقصة الكواكب.
الفراغ الفراغ. ولكن كيف صار الفراغ؟ أليس هو أيضاً، ككلّ شيء، جواباً على ما فينا؟ وما الذي فينا حَسَّسنا بالفراغ؟ كيف للحياة الدائرة في العروق أن تشعر بالفراغ؟ ما هذا الذي فينا يجوع إلى أكثر ممّا فينا، وعند العجز عن بلوغه يشعر بأنه فَقَدَ التوازن وأَخذ يسقط؟
ما الذي يَسْقط؟
أهو ضغط الدم، على هذا النحو البسيط التافه، ولا أكثر؟
أهو العَصَب المتحسّس؟
أهو واحدٌ من أمراض الوهم؟
... ولكن لماذا، حين يأخذنا إشراقٌ، كالإيمان أو الحبّ، يتوارى الفراغ؟
ولماذا، لماذا يبدو الفراغ أحياناً كأنّه ـــــ بل هو، بل هو ـــــ افتقادٌ لحضورٍ ما، مقعدٌ شاغرٌ لأحدٍ ما في القلب؟
كأنّ الفراغ الرهيب البهيم السحيق الذي ينتظم الكواكب ما هو سوى نوم الرغبة. نومها عنّا.
والتي كلّما نامت غابت الشمس.