سناء الخوري «جامعة باريس الثامنة ــــ فنسان»، مطلع السبعينيات. معظم قيادات «أيار 68» أساتذة محاضرون هنا، وعلى رأسهم، في معهد السينما، روّاد «الموجة الجديدة». الطلاب من جامعات أوروبا والعالم، جعلوا الحرم الجامعي لهم محجاً، يقصدونه للقاء جان لوك غودار وأقرانه، والخوض معهم في حمّى النقاشات المستعرة حينها في الفن والأدب والسياسة. لم يكن قد مضى وقتٌ طويل على تخرّج الشاب الزحلاوي من قسم المسرح في «معهد الفنون الجميلة» في لبنان، حين وصل إلى هذه البؤرة. دخل جان شمعون باريس دخول الفاتحين. جاء ابن سرعين إلى العاصمة الفرنسيّة ليتعلّم تقنيات الفنّ السابع على أصولها. رغم مرور أكثر من أربعة عقود، ما زال السينمائي اللبناني يحدثك بشغف عن صف تقنيات العدسة والضوء، وعن «مسيو غينو الحبّوب»، الآتي من «معهد لوي لوميير» العريق لتدريس طلاب «فنسان» مبادئ «الأوبتيك». «مرّة، كنا نستمع بانتباه لشرحه، وإذا بطالب إسباني يقف على مقعده، ويخلع سرواله ويدير قفاه على غينو، ويصرخ: سئمت من الأوبتيك». في اللحظة ذاتها، رنّ صوت جان شمعون في أرجاء الصفّ، وهو ينهر زميله بلهجة زحلاويّة: «ولاه... نزال»، ثمّ يطرده إلى الخارج. لا ينسى شمعون الابتسامة التي بادله إياها جان ماري غينو يومها. ابتسامةٌ كانت بدايةً لصداقة طويلة، بين الطالب اللبناني المقيم في شقّة قرب الباستيل، والأستاذ المخضرم، أفضت إلى دعوة شمعون للالتحاق بمعهد «لوي لوميار» العريق.
في صالون منزله في كليمنصو، يحيط شمعون نفسه ببقايا تلك الذكريات، وبصور العائلة. هذه صورة والديه: الأب الذي توفي قبل أن يعرفه جيداً، والأم التي التقت زوجها المهندس الوسيم الذي يكبرها بسنوات في بوسطن، وجاءت معه إلى سرعين، حيث أنجبت جان وجوزف وسعاد. هذه صور والدَي زوجته المخرجة مي مصري، وتلك صورته مع ابنتيه نور وهنا في حفلة تخرّج الأولى. وهذه صورة «ثنائي الزعران»، يقول تحبباً، وهو يدلّنا على صورة تجمعه برفيقة دربه. بعد هذه الجولة بين الصور، يفتح لنا خزنة كبيرة: هنا وسام الاستحقاق الذي منحته إياه الجمهوريّة اللبنانيّة، وتلك شهادة «رابطة متخرّجي معهد الفنون قسم التمثيل عام 1969»، وهذه من «الجزيرة» وتلك من «حزب الله»، ويطول العدّ.
حين سألناه عن عمره، كانت رائحة الكاتو بالفانيلا تفوح في أرجاء المنزل العائلي. أجاب وهو يدعونا لتناول قطعة: «يمكن مواليد 1944... لست أكيداً، مضى وقت ولم أعد أسأل نفسي كم عمري». تضحك لتلقائية الرجل، فيجاريك، تلمع عيناه ويقهقه. تتذكّر لوهلة سيرة شمعون كما رواها فجر يعقوب تحت عنوان «الرجل المهرجان»... يبدو أنّ اللقب أكثر من عنوان كتاب. شخصيّة شمعون المهرجانيّة تقفز مباشرة في وجه محدّثه: يحكي لك عن السينما، عن صداقاته القديمة، عن دراسته وأيام الطفولة، عن سنوات النضال الطلابي في السبعينيات، عن مشاريعه الحاليّة، عن فيلمه الوثائقي الجديد «مصابيح الذاكرة». كلّ ذلك يمرّ أمامك كشريط، يسرده راوٍ مرح بعفويّة مطلقة.
شخصيّة تكسر نمط المخرج الرزين الملتزم التي تطالعنا بها أفلامه الوثائقيّة. تحتشد هنا صور الحرب الأهليّة، والاجتياح الإسرائيلي، كما في «تحت الأنقاض» (1982)، ويوميات مناضلات بقيت قصصهن طويلاً في حيّز الصمت كما خديجة حرز في «زهرة القندول» (1985) عن قصّة هذه المقاوِمة اللبنانيّة، و«أحلام معلّقة» (1992) عن وداد حلواني رئيسة لجنة أهالي المفقودين في لبنان، وأخريات...
تجارب كثيرة قد تبرر لصاحب «طيف المدينة» أن ينسى عمره... لكنّها لا تمنعه من الاحتفاظ بذكريات الطفولة: بساتين قريته سرعين، والمدارس الداخليّة التي مرّ على مقاعدها، وذاك الأستاذ الذي ضربه كفّين ظلماً. يومها ترك المدرسة في حمانا، ووقف على الطريق ينتظر وسيلة نقل تقلّه إلى زحلة، فما كان منه إلا أن ركب شاحنة بضائع نقلته إلى أقرب موقف باصات. لم يعد يومها إلى المدرسة إلا بعدما تعهّد الأستاذ والرهبان المسؤولون ألا يمسه أحد بسوء. تجربته في المدرسة الداخلية علّمته الاستقلاليّة، «الأهل بعاد، وما في غناج».
عموماً، لم يتربَّ جيل شمعون على الدلال. انفجرت شرارة الحرب الأهليّة بعد عودته من باريس، وكان حينها في خضمّ إنجاز برنامج في تلفزيون لبنان تحت عنوان «الناس والأحداث». كان يحمل الكاميرا، وينزل إلى الشارع، ويسأل الناس أن يحكوا أمام العدسة أفكارهم من دون رقيب. «كنت أشعر بطاقة عارمة لدفع الناس إلى الكلام بعفويّة وحريّة وجرأة»، يقول كمن يخطّ بياناً سياسياً. إنّه بالأحرى بيانه الفنيّ الوحيد. سينما جان شمعون مشغولة بالتقاط الناس كما هم، بتسجيل لحظاتهم الصافية والصادقة. أعماله تعجّ بصور أفراد يروون قصصهم الخاصّة، فإذا بها تتحوّل إلى وثائق للذاكرة والتاريخ. ربما لهذا السبب، لم ترَ باكورته الروائيّة «طيف المدينة» النور حتّى عام 2000. لكنّها في الحقيقة لم تكن إلا خلاصة شبه متخيّلة عن سيرة مدينة وأهلها الضائعين، كما سجّلها في أعماله الوثائقيّة السابقة.
كانت الحرب حبلى بالتجارب التي صقلت جيل شمعون. في السينما، خطّ مع مارون بغدادي وبرهان علويّة ورندا الشّهال وجوسلين صعب، أعمالاً أسّست للسينما اللبنانيّة. إيمانه المطلق بالقضيّة

خطّ مع مارون بغدادي وبرهان علويّة ورندا الشهال مداميك تأسيسيّة للفنّ السابع اللبناني

مطلع الحرب الأهليّة، سجّل مع زياد الرحباني المسلسل الإذاعي «بعدنا طيبين قولوا الله»
الفلسطينيّة، جعله ينضمّ إلى الراحل مصطفى أبو علي في «مؤسسة السينما الفلسطينيّة». هناك، تعرّف أيضاً إلى مي مصري، تلميذة السينما الفلسطينيّة القادمة من «جامعة سان فرنسيسكو» للزيارة. «قالت لي إنّها تدرس السينما وستتخرّج بعد سنة ونصف، فقلت لها: «إيه، روحي خلصي ورجعي». بعد سنة ونص مشرفة الستّ، يا أهلاً وسهلاً»، يضحك. عادت مي، وتزوجا مدنياً في فرنسا... وكانت تلك بداية لشراكة حياتيّة وفنيّة.
شراكة أخرى تركت بصمتها في حياة شمعون. إنّها تجربته مع زياد الرحباني في «بعدنا طيبين قولوا الله» البرنامج الإذاعي الشهير بعد «انقلاب الأحدب». «بدأت القصّة مزحة، عبر أثير «إذاعة لبنان» التي كان مبناها في «حديقة الصنايع»، ثمّ راح الناس يتابعون البرنامج بكثافة»، يخبرنا. «يا لطيف. أنجزنا فلتات رهيبة»، يضيف. من هذه الفلتات مشهد سُجّل عام 1976 عن لعبة كرة قدم متخيّلة بين السياسيين اللبنانيين، من أبطال تلك المرحلة. ما كان شمعون والرحباني ليتخيلا يومها أنّ التهريج السياسي في بلادهما سيحوّل الكوميديا إلى لعبة كرة قدم حقيقية بعد ثلاثة عقود!
جان شمعون الذي يفضّل الجاز على الموسيقى الكلاسيكيّة، ويعشق قبلهما الناي والقانون والمنجيرة، والارتجال الموسيقي الشرقي، يعزف أيامه الآن على وتيرة هائدة. خلال الشهر الماضي، عرض شريطه «مصابيح الذاكرة» الذي يتتبع شخصياته الأثيرة أي أمهات المفقودين. حين يودعك على الباب، تذكره أنّه خرج غاضباً من حفلة تكريم «نقابة السينمائيين اللبنانيين» العام الماضي. فيدعوك إلى لقاءٍ ثانٍ للحديث أكثر في السينما، فـ«تقييم وضع هذا الفنّ في لبنان، يجب أن يتولاه ناس جديون، لديهم خيال، وهم على علاقة وثيقة بالواقع».


5 تواريخ

1944
الولادة في سرعين (البقاع/ لبنان)

1969
تخرّج من «معهد الفنون الجميلة» في لبنان، وسافر إلى فرنسا حيث أكمل دراسته للسينما في «جامعة باريس الثامنة» و«معهد لوي لوميار»

1976
دخل السينما من باب الوثائقي الملتزم بـ«تلّ الزعتر». بعدها بـ١٦ سنة صوّر بيروت الخارجة من أتون الحرب الأهليّة في «أحلام معلّقة»

2000
باكورته الروائيّة «طيف المدينة»

2010
«مصابيح الذاكرة» الذي يعود فيه إلى قضيّة أهالي المفقودين في لبنان