سعيد خطيبي
«المهم أن نفتح باباً ونتحدث عن جروحنا وأخطائنا ونطرح الأسئلة»، هكذا يعرّف بنجامين ستورا فائدة التاريخ. ابن «الأقدام السوداء» الذي ولد في قسنطينة (شمال الجزائر)، من أبرز الباحثين في تاريخ الجزائر الحديث. عام 1978، كان يناقش رسالته لنيل شهادة الدراسات العليا في التاريخ من جامعة السوربون. يومها، حضر مراقبون من سفارة الجزائر في باريس ليسمعوا ما سيقوله المؤرخ الشاب عن مصالي الحاج زعيم «الحركة الوطنيّة الجزائرية». حكومة «جبهة التحرير الوطني» بقيادة الرئيس هواري بومدين، المستأثر أحادياً بالسلطة، رأت في الحديث عن الحاج موضوعاً حساساً ومثيراً للريبة.
لم يكن ذلك إلا أول الغيث في علاقة ستورا مع الجزائر. ثلاثة عقود مضت، وبلد المليون شهيد لا يفارق أبحاثه ودراساته. في أطروحته لنيل الدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة، اختار المهاجرون الجزائريون في فرنسا موضوعاً له، قبل أن يؤسس مطلع التسعينيات «معهد المغرب العربي ــــ أوروبا» ويتفرغ كلياً للبحث والتنقيب في تاريخ الجزائر خلال حقبة الاستعمار.
أستاذ التاريخ المغاربي والحقبة الاستعمارية في جامعات فرنسا، زار الجزائر العاصمة أخيراً لتوقيع كتابه الجديد «لغز ديغول، خياره من أجل الجزائر» (روبير لافون ــــ 2009). وفي هذا البحث، يوثّق علاقة الجنرال شارل ديغول بالمسألة الجزائرية وخضوعه لمطلب الاستقلال...
عاش المؤرخ الفرنسي في مدينة قسنطينة حتى الثانية عشرة من عمره. يتذكر الجمعات العائليّة، والشمس، وضجيج الحياة السعيدة هناك. انتقاله إلى فرنسا عام 1962 قبل أيام من استقلال الجزائر، جاء ليقلب حياته رأساًَ على عقب. «بدت فرنسا في عينيّ بخيلة، متحجّرة، منافقة...»، يكتب. «تغيير اللهجة، محاولة وإخفاء الأصول، وتعلّم الحديث بلطف: هذا ما كان يسمى الاندماج».
من طفولته في القسنطينة يتذكر حظر التجوّل والقتال في الشوارع والاغتيالات. ومن باريس الستينيات، يتذكر المدارس غير المختلطة، والجرائد المملّة، والأغنيات التقليديّة... كلها عوامل جعلت الطلاب يصيرون ثواراً، يحتلون الصفوف، ويلهبون الشوارع. جاء أيار/ مايو 68 كخشبة خلاص. عاش ثورة الحركات النسويّة، وإقرار قانون الإجهاض، والحرية المستجدة في الملبس والحفلات والسينما والمسرح... «شباب مثاليون، ديناميكيون، وناشطون متحمسون في السياسة، يقاطعون كلام أساتذتهم بكل وقاحة، هكذا كنّا»، يقول. ويعترف: «كنت أذهب إلى الجامعة لقراءة ماركس، وإنغلز، وتروتسكي». الشاب الذي انتمى مطلع السبعينيات إلى اليسار التروتسكي الفرنسي، انعزل لاحقاً عن النشاط السياسي. «أؤمن بعودة اليسار. لكن يسار لا ستاليني ولا عالم ثالثي. يسار يضمن انتقالاً سياسياً مع جيل ابني»، يقول.
صاحب «أصول الوطنية الجزائرية» (1998)، لفته الجدل الذي سبق عرض شريط «خارجون عن القانون» للمخرج رشيد بوشارب في «مهرجان كان» أخيراً: «ما دار من جدل واتهامات أحادية الجانب، نابع من مخاوف بعض الأطراف الفرنسية من كشف وجهها الحقيقي، إزاء ما جرى في سطيف في 8 أيار (مايو) 1945». يشدد ستورا على دور السينما في الترويج للخطاب السياسي. ويضرب مثالاً على ذلك ما فعلته الولايات المتحدة: «خسرت ميدانياً حربها في فيتنام، لكنها ربحت الحرب النفسية على الشاشة الكبيرة»، يقول. «أحد الأسباب الثانوية التي أثارت قلق أحزاب اليمين الفرنسي إزاء فيلم «خارجون عن القانون» يتمثل في تكريس مكانة عدد من الفنانين والكوميديين ذوي الأصول المغاربية الذين يفرضون خطاباً مغايراً، ورؤى مختلفة لا تتماشى مع الرؤى الرسمية، على غرار جمال دبوز ورشدي زام».
عام 1995، في أوج موجة العنف والاغتيالات التي عصفت بالجزائر، دعا بنجامين ستورا الجماعات الإسلامية من جهة، والحكومة من جهة أخرى، إلى تحمل مسؤولياتهما. كلفه الأمر سلسلة تهديدات، قادته إلى الانعزال لسنوات، والسفر والإقامة في فيتنام. واصل هناك العمل على تاريخ البلاد وشغل منصب مستشار تاريخي في فيلم «الهند الصينية» (1992) لريجيس وارنيه، ثم «بلادي» (2000) للمخرج ألكسندر أركادي. وأسهم في إنجاز أشرطة وثائقية ذات طابع تاريخي، لقنوات تلفزيونية فرنسية مختلفة من بينها «سنوات جزائرية» (1991)، و«أحاديث مع رجالات حرب الجزائر»( 2003).
في الوقت الراهن، وفي خضم استعداد حكومة نيكولا ساركوزي للاحتفال بمرور خمسين سنة على استقلال المستعمرات الفرنسية القديمة في القارة السمراء، يتحدث ستورا بنبرة تدعو إلى كثير من التأمل: «يفهم الجميع أن هذه الخطوة مناورة سياسية، لكنها ستكون فرصة لإعادة النظر في الماضي، وفرصة أيضاً لامتحان الضمائر». وسط حالة قلق تعتلي محيّا الرجل إزاء تعقّد البحث في مسألة الذاكرة المشتركة بين الجزائر وفرنسا، يبرز وميض أمل في الكتابة الروائية على ضفتي المتوسط. «عندما تنتهي أي حرب، تبرز في المجتمع أهمية نسيان الماضي وتجاوزه. لكن المهم بالنسبة إلى الروائي، ليس النسيان، بل العودة إلى الذاكرة وتشريحها وفهمها أكثر».
إشكالية كتابة تاريخ الجزائر، وفترة الوجود الاستعماري الفرنسي، هما إحدى العقبات المهمة التي يواجهها الطرفان برأيه. نقاط التنافر عديدة، إضافةً إلى رفض حكومتي البلدين الإفراج عن وثائق وشهادات تصفها بعبارة «الخطيرة جداً» تعود إلى تلك المرحلة. تعمقت الهوة أكثر فأكثر بعد التصديق على قانون 23 شباط (فبراير) 2005، الهادف إلى تبرير الحركة الاستعمارية، وتأكيد «أبعادها الإيجابية». يعلق ستورا: «درجة التعقيد التي تكتنف العلاقات بين الجزائر وفرنسا تعود إلى مسألة الذاكرة والتاريخ». يلفت هنا إلى أنّ هذا الجدل القديم «مسألة لا تقتصر على الجزائر أو فرنسا فحسب، بل تطال الاستعمار عموماً وما رافقه من حروب تحرير أفرزت تناقضات وعلاقات تضاد وتنافر».


5 تواريخ

1950
الولادة في قسنطينة (الجزائر)

1990
أسّس «معهد المغرب العربي ــــ أوروبا»
للبحث التاريخي

2002
شريط وثائقي بعنوان «وجها الاستقلال»

2004
إصدار كتاب «مصالي الحاج،
زعيم الوطنية الجزائرية» (Hachette)

2010
زار الجزائر العاصمة مطلع
حزيران (يونيو) الجاري للحديث في آخر كتبه
«لغز ديغول، خياره من أجل الجزائر»
(روبير لافون ــ 2009)