مصطفى بسيوني
لا وقت لالتقاط الأنفاس. بمجرد عودته من رحلة «أسطول الحرية» الذي انقضّت عليه القوات الإسرئيلية، انخرط محمد البلتاجي في التحضير لرحلة جديدة برية، هذه المرة، لإغاثة غزة وكسر الحصار. إنّها واحدة من الرحلات التي قطعها هذا النائب المصري من أجل ما آمن به دوماً، وناضل من أجله باكراً. منذ كان طالباً في الثانوية الأزهرية، انضم إلى حركة المعارضة لاتفاقية «كامب ديفيد»، وانتخب القائد الطلابي أميناً لاتحاد طلاب المعهد الأزهري في تلك الفترة. وهو المسار الذي سيستكمله في الثمانينيات حين أصبح رئيس اتحاد طلاب جامعة الأزهر.
نضاله ضد الصهيونية و«كامب ديفيد»، وانضمامه باكراً إلى جماعة الإخوان المسلمين، كلفاه ثمناً باهظاً. الطالب المتفوق لم يشفع له أنّه كان الأول على دفعته في التخرج، فحُرم ــــ بتوصية من الجهات الأمنية ــــ من التعيين في كلية طب الأزهر التي تخرّج منها، ولم يتمكن من الحصول على حقه في التعيين معيداً في الكلية إلا عبر القضاء بعد تخرجه بثلاث سنوات.
لكن ابن مدينة البحيرة في دلتا مصر، بقدر ما كانت تضطهده الحكومة، كانت تناصره الجماهير. في الانتخابات البرلمانية عام 2005، أطاح البلتاجي منافسه من الحزب الحاكم في الجولة الأولى من الانتخابات، ونجح بأغلبية ساحقة. لكنّ نجاحه بالأصوات لم يكن كافياً لحصوله على مقعد البرلمان. حاول القاضي المشرف على الانتخابات الانصراف من دون إعلان النتيجة، بحيث يمكن تبديلها. لكنه اضطر لإعلان فوز البلتاجي رسمياً حين نام الناخبون أمام سيارته ليمنعوه من الانصراف قبل إعلان النتيجة.
النائب البرلماني لم ينسَ تاريخه في الحركة الطلابية. التحق بلجنة التعليم في مجلس الشعب مدافعاً عن حقوق الطلاب في التعليم والانتخابات الحرة. يقول «رغم أن المجلس محكوم بأغلبية لا تسمع الآراء والحجج، وتصوِّت لمصلحة الحكومة دوماً، فقد حاولنا التوجه للرأي العام من خلال العمل البرلماني. التزمنا بمصالح الناخبين الذين صوّتوا لنا، وطرحنا على الرأي العام ما يجري بشفافية. أما النتائج فليست في أيدينا. في كل الأحوال، لا ينبغي أن نترك الساحة خالية».
برز دور البلتاجي في التضامن مع غزة، وتنظيم المبادرات من خلال الحملة الشعبية لفك الحصار. يقول: «سعينا إلى تجهيز ثلاث قوافل لغزة. لكن السلطات المصرية منعتها من الوصول حتى إلى الضفة الشرقية من قناة السويس. ثم حاولنا الارتباط بحملة «شريان الحياة»، وعايشنا التعنت الذي واجهته، ووجدنا في «أسطول الحرية» بديلاً للصعوبات التي نواجهها على معبر رفح».
كانت تجربة «أسطول الحرية» مميزة للرجل الذي بدأ حياته السياسية بالعداء للصهيونية والتطبيع، وخصوصاً حين وجد نفسه وجهاً لوجه مع العدو. لا يستطيع منع انفعاله حين يتحدث عن التجربة: «لم يكن الهدف توصيل مواد الإغاثة فقط، بل كان الهدف كسر الحصار. سافرت مع الأسطول ورأيت أرقى نموذج إنساني في حياتي. أناس من مختلف الأديان والجنسيات والأعراق، جمعهم التضامن مع غزة ورفض الحصار الإجرامي. بعد مسيرة أيام في البحر، وقعت المجزرة. لم نفاجأ بوحشيتهم بل هم فوجئوا بتماسكنا وشجاعتنا. توقّع الجنود الصهاينة، أنهم بمجرد توجيه فوهات بنادقهم إلى وجوه المتضامنين، سوف ينبطحون ويستسلمون. لكن المقاومة صدمتهم وأصبحوا كالفئران المذعورة. أمسك المتضامنون باثنين من الجنود وجرداهما من الأسلحة وأصاباهما في الاشتباك ثم جلباهما إلى نقطة الإسعاف في السفينة. ورغم جريمتهما، عالجناهما كي نضرب المثال للعالم في الفرق بين المقاومة والتضامن وهمجية المحتل».
وها هو الرجل الذي بنى مسيرته النضاليّة على معاداة الصهيونية، يجد نفسه أسيراً في ميناء أسدود، ويقف وجهاً لوجه مع المحقق الإسرائيلي. مع ذلك، لم يفقد رباطة جأشه: «في ميناء أسدود، سألني محقق إسرائيلي: أنت برلماني مصري، فمن أي حزب؟ قلت له: من الإخوان المسلمين. فرد علي: أنتم تكرهوننا. قلت: نعم نكره الاحتلال وجرائمه، لكننا لا نكرهكم بسبب يهوديتكم. ليس لدينا كراهية ضد اليهود. كراهيتنا هي ضد الاحتلال».
على الأراضي الفلسطينية التي نادى بتحريرها طويلاً، سار البلتاجي قبل أن تتحرر: «طوال الطريق من ميناء أسدود إلى طابا، كنت في سيارة القنصل المصري على الأراضي الفلسطينية. كنت أشعر بالمرارة، فطالما تمنيت أن أدخل هذه الأراضي وهي محررة، أو أن أدخلها في معركة تحرير. أحسست بالألم أني أسير فيها وهي لا تزال محتلة».
فور عودته إلى مصر، بدأ الإعداد لدخول غزة، في قافلة مع وفد برلماني من قوى المعارضة، هذه المرة براً عبر معبر رفح... حملت القافلة شحنات حديد وإسمنت لدعم إعادة إعمار القطاع. لكن الرحلة البرية، لم تكن أسهل من سابقتها البحريّة: «واجهنا صعوبات ومضايقات من السلطات الأمنية المصرية رغم إعلان «فتح معبر رفح لأجل غير مسمى». وفي النهاية، منعت شحنات الحديد والإسمنت من الدخول. وبعد عناء، استطاع الوفد البرلماني دخول غزّة».
براً أو بحراً، كل الطرق بالنسبة إلى محمد البلتاجي، تؤدي إلى غزة. ومن البلد الذي وقّع نظامه اتفاقية السلام مع إسرائيل، يخرج دوماً من كل الأجيال وكل الاتجاهات السياسية مَن يؤكد أن إسرائيل ما زالت العدوّ، وأن سلام الأنظمة لم يتمكّن من إخضاع الشعوب: «أتصور أننا اليوم في مرحلة تعبئة الرأي العام حول قضايا أساسيّة. الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني هذه هي قضايانا، وهي كل لا يتجزأ! وهذه المرحلة يليها حشد الجماهير. ولا بد من أن تكون هناك تضحيات. بين ركّاب أسطول الحرية من ضحى بحياته ليتحدّى الحصار المفروض على غزة».
ضد كامب ديفيد، تظاهر الطالب في الثانوي الأزهري. وبعدها بثلاثة عقود، وقع النائب أسيراً في قبضة العدو... ثم عاد ليلتقي أبناء المقاومة في أرض الصمود، مجسداً بذلك مسيرة الحركة الوطنية المصرية التي طالما اختلفت فصائلها حول مسائل كثيرة، لكن بقي يجمعها رفض التطبيع ودعم المقاومة. الحركة التي تتشكل اليوم، هي قوة تغيير، وتجمع الحرية والعدالة والاستقلال في معادلة واحدة، من أجل «أن يبزغ فجر جديد» كما يقول البلتاجي. في انتظار ذلك، يمكن القول إن طالب الثانويّة الأزهريّة حقّق أحلامه.


5 تواريخ

1963
الولادة في البحيرة، دلتا مصر

1985
رئيس اتحاد طلاب جامعة الأزهر

1987
تخرج من طب الأزهر

2005
انتخب نائباً في البرلمان

2010
شارك في أسطول الحرية لكسر الحصار، وعاد منه لدخول غزة برّاً عن طريق رفح