بدأت بعض الجنوبيات بتحضير المؤونة. موسم هذا العام جاء متواضعاً لأسباب ليس أولها انتشار موضة «تفريز» المزروعات والتغير المناخي الذي ضرب المواسم، ولا آخرها ضرورة إتمام العملية قبل حلول شهر الصيام في آب
آمال خليل
في بلدة الضهيرة الحدودية (قضاء صور)، لا تزال أم قاسم السويد، كما جاراتها في القرية، تحافظ على عادات تحضير المونة التي ورثتها عن والدتها قبل خمسين عاماً. بل إنها لا تزال على عادتها في تقسيم الأيام بحسب المواسم الزراعية إن كان لناحية الزراعة أو «الحصيدة» أو «التسليق» أو... إعداد المونة. في هذه الأيام، تزدحم منازل البلدة الصغيرة بأطايب الأرض ومنتجاتها تحضيراً لتوضيبها زاداً للشتاء. هكذا، قبل الظهر، تفترش النساء الغرف الداخلية والشرفات و«المصطبات»، وسط أكوام التبغ، حيث يتشاركن مع أولادهن وأطفالهن «شكّ الدخان» وتعليقه في السقف لتجفيفه ثم توضيبه تمهيداً لبيعه في فصل الشتاء، إلى أن ينتهي «دوام الشك» عند الظهيرة، ويحين دور «تنقية» الفريك والماش والزعتر والسماق والكشك. في وقت لاحق من الشهر المقبل، ينضمّ إلى تلك الأعمال «درس» بيادر القمح، أي فصل الشتلة عن الحبوب لسلقها لاحقاً ثم جرش البرغل. وبين هذا الشهر وذاك، تنفرد بعض النسوة بتحضير المقطرات مثل الشومر والعيزقان والزعتر، فضلاً عن صنع المربيات تدريجياً بحسب نضوج الفاكهة التي تصنع منها. أما أيلول، فيُترَك لقطاف الزيتون وعصر الزيت وتوضيبه في جرار فخارية. ولأن رؤوس الماشية موجودة في معظم البيوت، تلائمها وفرة المراعي الخضراء، لا تقلق النسوة على تأمين مؤونة الحظائر وما ينتج منها من ألبان وأجبان وزبدة لأنها متوافرة طوال العام.
وإذا كانت بلدة الضهيرة النائية، ذات الشتاء القارس، لم تقلع عن حاجتها للتموين بسبب قلة الموارد التجارية والشرائية وضعف وسائل النقل، فإن بلدة الرمادية، البعيدة عشرات الكيلومترات عنها، قد تخطت ذلك التقليد. ففي الرمادية وسائر البلدات الساحلية والقريبة من المدن، يقرّ الأهالي بأن «موسم المونة الذي كان يحسب له ألف حساب بسبب كلفته المادية والمجهود الجسدي الذي يتطلبه، ينضم تدريجياً إلى لائحة التراث». فقد اختصرت «الفريزر»، أي الثلاجة، دور النملية و«الكمكة» والقفص والتتخيتة والسدة والعلية، أي الأماكن التي كانت تحفظ فيها المونة، لا سيما القاورما (اللحم المقدد)، والخضار اليابسة والزعتر والبرغل. في ما مضى، كانت النسوة ييبّسن الخضار كالفاصوليا والبازيلا والبامية في مواسمها الأصلية ويعمدن إلى شكّها في خيطان قبل أن تعلّقنها في الأسقف حيث تُحفَظ لاستخدامها في طبخات «اليخنات الساخنة» التي تشيع في الشتاء. أما الآن، وبعدما باتت الخضار متوافرة طوال أيام السنة، استبدلت ربات المنازل تجفيف الخضار بسلقها وحفظها في أكياس بلاستيكية في الثلاجة.
وفيما تزخر الضهيرة بزميلات لأم قاسم، تندر مثيلات هذه النسوة في الرمادية، ليقتصر عدد «الممونات» على سيدتين لا تزالان تحافظان على عادات التموين البلدية وتتخذان منها مهنة لكسب العيش ووسيلة للحفاظ على تراث الأجداد الصحي، حيث تعتمد عليهما بيوت الرمادية ومحيطها للتموين.
بين شهري نيسان وأيار، تحمل ليلى برجي (51 عاماً) «الزوبرة والحاشوشة»، أي المنجل، لتحصد بيديها سنابل القمح الخضراء تمهيداً لتشويحها على الحطب والبلاّن ونزع حبات القمح منها وجمعها في أكياس تُركَن في الظل لأسابيع حتى تحافظ الحبة على اخضرارها. ولأنه يُفرَك باليدين لنزع قشره، يُسمّى «الفريك». في مثل هذه الأيام، تُفرَغ هذه الحبوب الخضراء من الأكياس، ويُغربَل بالغربال العربي لفرز الحب الصالح منه عن ذلك الطالح. أما مصيره النهائي قبل الاستهلاك، فيكون في الجاروشة التراثية المؤلفة من حجرين متطابقين بعضهما فوق بعض، تحركهما دوراناً عصا خشبية صغيرة، أو في الجاروشة الحديثة التي تجرش بطريقة آلية وسريعة كميات كبيرة.
قبل أيام، أنجزت ليلى قطاف الزعتر البلدي من البراري المحيطة بالبلدة. بعد تنقيته وتجفيفه تحت الشمس، تنخّله بالغربال وتحفظه إلى أن ينضج السماق بدءاً من شهر تموز. حينها يُدَقّ كل كيلوغرام من الزعتر مع كيلوغرامين من السماق بـ«دقماقة» خشبية. لاحقاً، تضيف ليلى إلى الخليط المطحون الناعم، السمسم الذي لم تعد تزرعه بكميات كما في السابق لأن عوامل الطقس وقلة هطول الأمطار لم تعد تنتج موسماً وفيراً، ما يضطرّها اليوم لشرائه جاهزاً من الأسواق، فيما كانت تدرسه مثل القمح وتيبّس حباته وتشويها على النار.
بعد الزعتر والسماق والقمح على أنواعه، تجد ليلى وقتاً لتحضير شراب أو رب البندورة ومربّى الحر (الفلفل الأحمر) الذي تشتهر به الرمادية وتستخدمه نسوتها في الطبخ والمأكولات كثيراً.