أحمد محسنينتحر ثلاثة آلاف شخص في الدقيقة. تلتهم الملاريا طفلاً كل ثلاثين ثانية. الأرض تتحول إلى ساحة تمرين على جهنم. كل شيء يتغيّر، وربما بدأ العد العكسي لإعلان موت الكوكب. الحاجة إلى اللغة الفذة، والشعر، معدومةٌ هنا. الفيضانات تبتلع اللغة أيضاً. النيران التي تلتهم الأشجار المهملة لن تتوقف. لن يعود ملايين المفقودين. في اللغة الإعلامية الحديثة، المفقود هو الميت. والدور على الجميع: من إسلام آباد إلى كاليفورنيا. أية لغة تصف هذا الموت الكثير؟ لا شيء. كل هذا، ونشرات الأخبار المحلية لا تتوقف عن بثّ الأخبار المتعلقة بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان في صدارة المقدمات المملة. والتفاصيل؟ قبور متقنة لدفن الحقائق.
النائب فلان يهدد بحرق البلد. الوزير فلان يجدد ثقته بالعدالة الدولية. الرئيس فلان زعلان وليس في مزاج جيد للكلام. الأخبار الأخرى عادية. أين أصبحت أنفلونزا الخنازير؟ فجأة، صارت رشحاً عادياً. اختفت لمصلحة المسلسلات التركية والدراما السورية التي تحثّ الرجل على انتهاك حقوق المرأة بوقاحة (أغلب المسلسلات التلفزيونية وليس جميعها). ما هي أخبار مصرف المدينة؟ ضاعت الطاسة. لا نعرف عنه إلا بعض ما تجرّأت بعض الصحف على نشره، وتلك الصورة الشهيرة للمصرف المقفل في شارع الحمرا. ذابت القصة، كغيرها، في النسيج الجديد. كان ينقص أن يتأبّط المسؤول الأمني عينه الشاشات مجدداً، ويحذرنا من عبدة الشيطان. لكن، يبدو أنهم تابوا توبة جماعية إلى الله.
هكذا، انقرضت عشرات القضايا التي كاد جزء منها يعيد المتاريس إلى الأزقة. لكنّ ثمة جديداً دائماً. اليوم، المحكمة الدولية هي الحدث. طبعاً لا يعني ذلك دعوة إلى إفلات المجرمين من العقاب، فالتجارب أثبتت أن هؤلاء يفلتون دائماً. وللمناسبة، يبدو اسم المحكمة مضحكاً في العرف المحلي الشعبي، وهذا ليس تهكّماً. اللبنانيون يستخدمون مصطلح «دولي» للسخرية عادةً. يضيفونه كنعت على الأشياء من باب السخرية. اللبنانيون، رغم أنهم ينتخبون الأشخاص أنفسهم منذ ستين عاماً، لا يثقون بالعالم. المشكلة الوحيدة أنهم يثقون بالتلفاز ثقة مفرطة.
التلفاز هو الدين الذي يتبعه الجميع. هو الوحيد الذي يسعى المسؤولون السياسيون إلى احتلاله والسيطرة عليه، قبل القضاء على الأشياء الأخرى. والحديث عن أشياء أخرى، حتى لو كانت تدمّر البشرية جمعاء، غير وارد الآن. التلفاز يقوم بمهمة تلف أعصاب الشباب الذين لم ينتسبوا إلى الأحزاب التقليدية حتى الآن. ومن شاهد، أول من أمس، حزن النائب الشاب الذي خصص وقته لمساندة المنتخب الوطني في كرة السلة، يفهم ذلك. أفسد حضور رئيس الجمهورية ووزير الداخلية المفاجئ إلى الملعب طلّته كنجم يفوق لاعبي الفريق اللبناني، المدعومين من «نصف» جمهور نجومية. نصف جمهور لأن النصف الآخر هو ذلك العنصري الذي أهان لاعبين آخرين قبل أيام، ومرت الحادثة مرور الكرام.
كلّ شيء يمرّ مرور الكرام هنا. العالم في مهبّ الاحتباس الحراري وغضب الطبيعة، ونحن لا نعرف شيئاً عن كيفية حصول فيضان حتى الآن. لا نعرف كيف نتصرف في حال حصول زلزال. هل يعرف أحد أن لدينا هيئة إدارة كوارث في لبنان؟ لم يذكرها الإعلام عندما تحطمت الطائرة الإثيوبية. هل قلت طائرة إثيوبية؟ حتى الآن، لا تقرير واضحاً عمّا حدث في ذلك اليوم.