لمناسبة عيد الجيش، أزيح الستار عند مدخل مخيم البارد عن نصب تذكاري لـ172 شهيداً من الجيش اللبناني سقطوا عام 2007 أثناء المواجهات في المخيم المذكور مع عصابة «فتح الإسلام». وهي مواجهات أدت إلى سقوط حوالى أربعين مدنياً فلسطينياً أيضاً
عكار – روبير عبد الله
زحمة من المعاني والمضامين كشفتها إزاحة الستار عن «النصب التذكاري لشهداء مخيم نهر البارد». بدءاً من العنوان بحدّ ذاته، مروراً بتفاصيل النصب الذي يظهر جنديين على ظهرهما البنادق ويرفعان العلم اللبناني قبالة مخيم نهر البارد، وخلفهما من جهة عكار جندي آخر يحمل طفلاً، وصولاً إلى تعدد الرؤى وتباينها لدى ذوي شهداء الجيش وأبناء عكار من جهة، وفي صفوف أبناء المخيم من جهة أخرى.
تنبغي الإشارة أولاً إلى الإجماع الحاصل على الموقف الرافض لجماعة فتح الإسلام، كما على تأييد الجيش، باعتبار أن لعكار نصيباً وافراً من شهدائه من ناحية، وأن أهل المخيم يعدّون أنفسهم «ضيوفاً على الأرض اللبنانية ومن حق الجيش اللبناني تكريم شهدائه ساعة يشاء وأينما يشاء» من ناحية أخرى.
لكن في بلدة ببنين التي كان نصيب أهلها من حرب المخيم ثلاثة عشر شهيداً، تحفّظ أحمد علي الرفاعي، ابن عم الشهيد نور الدين الرفاعي، على حيثيات إقامة النصب. وهو للمناسبة يرى أن كل شهداء الجيش في ببنين وخارجها إخوة له وأقرباء. ففي رأيه «يذكّر النصب أمهات الشهداء بمأساة فقدان أبنائهن، كذلك فإن وجوده قبالة المخيم يخلق حالة عداء لدى تلك الأمهات، فينقلن مشاعرهن إلى أبنائهن في دورة كراهية خطرة. مع العلم بأنه، في رأي الرفاعي، لا علاقة لأبناء المخيم بتنظيم فتح الإسلام، فهم «مثلنا ضحايا تلك العصابة، ونحن في المقابل نشعر أن المسألة كلها لعبة ضد المخيم». ويتابع «بعلمك ما فيك تفوّت إبرة على المخيم، فكيف دخل شاكر العبسي إذاً؟ وكيف خرج؟ ثم ما معنى الشائعات أو المعلومات عن طريقة موته. لحدّ الآن ما من أحد يعرف حقيقة ما جرى».
ويفرّق أهالي ببنين بين الشهداء في مواجهة العدو الإسرائيلي، كما هي حال الشهيد مازن حسين الذي سقط في الأوزاعي أثناء عدوان تموز، حيث يعتزون بهم، والشهداء في معارك البارد، إذ يأسفون لسقوطهم. وهذا ما قاله علي أخو الشهيد، مضيفاً أن «خطيبة أخي كانت فلسطينية من مخيم البارد، ونحن ليس لدينا أيّ عداء تجاه الشعب الفلسطيني».
أما زكريا السيد من ببنين أيضاً، فيرى أن هناك شهداءً سقطوا للجيش، تماماً كما سقط شهداء من الفلسطينيين الأبرياء، و«أهل المخيم ظُلموا مثلنا. فالكبار يختلفون والصغار يدفعون الفاتورة». يوافقه في الأمر خالد ديب قائلاً إن العصابة التي دخلت إلى المخيم غريبة عنه، وجاءت من دول خارجية في سياق «مؤامرة على المخيم». ويضيف أن «إقفال المخيم وحصاره المستمرين يضرّان بالفلسطينيين كما يضرّان بنا نحن اللبنانيين»، مطالباً الدولة بفتح الطريق أمام الراغبين في دخول المخيم، «وخاصة بعد رحيل فتح الإسلام».
لكنّ لأبي زين حبلص من ذوق الحبالصة موقفاً مختلفاً. حبلص سقط له شهيدان: زياد في معارك البارد وزكريا في كمين نصبته مجموعة مهرّبي ممنوعات في البقاع (كون البقاع في ذهنه خارج الدولة) لكنه يستدرك كأنه يراجع نفسه، فيقول «حتى ما نبالغ، الجماعة ينتمون إلى الدولة اللبنانية، ولولا ذلك لما تمكّنت استخبارات الجيش من إلقاء القبض على مرتكبي الجريمة». ويرى حبلص أن نصيبه كان خمسة شهداء، إذ سقط له، إضافة إلى ولديه الاثنين، ثلاثة شهداء من أبناء إخوته وعمومته. ومع ذلك، التزاماً منه بخط «المؤسسة العسكرية»، طوّع أربعة أبناء جدد في المؤسسة بعد انتهاء معارك البارد. غير أنه يحمّل الفلسطينيين مسؤولية السماح لجماعة فتح الإسلام بالانتشار داخل المخيم، بل يرى أصلاً أن مسؤولية كبرى تقع على عاتقهم في نشوب الحرب الأهلية في لبنان. لكنه يعود ويتساءل عن مبرر تقاعس الدولة، برأيه، في عدم محاكمة جماعة فتح الإسلام قائلاً «مقابل اسم كل مسؤول في السلطة هناك دولة أجنبية، وأقول هذا من حرقة قلبي. فلو استشهد أبنائي على الحدود، لقلت فداءً الوطن، ولكن استشهادهم هنا في مواجهة أي دولة؟». أما أهالي مخيم نهر البارد الذين يتحدثون «من باب التمنّي لا الإملاء على قيادة الجيش»، فتمنى من بينهم الشاعر شحادة الخطيب على الجيش إقامة نصب لشهدائه الآخرين الذين سقطوا بالقرب من هنا، في العبدة، بالقصف الإسرائيلي على مركز لاستخبارات الجيش اللبناني في حرب تموز، وهم ستة شهداء، «وكان ذلك قبل حرب المخيم، وقد سارع أبناء المخيم إلى نجدة الجيش، فنقلوا الشهداء والجرحى إلى المراكز الطبية في مخيم نهر البارد» حسب شحادة.
أما في باب مقاومة فتح الإسلام، فيروي الحاج أبو جورج صالح عبد الرحيم واقعة سقوط أول شهيد فلسطيني من الفصائل الفلسطينية واللجان الشعبية أثناء دهم مجموعة مسلحة لفتح الإسلام، كانت تسكن شقة في مخيم البداوي. وبعد روايته لمختلف محطات المواجهة مع فتح الإسلام، يعرض السقوط المتتالي للضحايا الأبرياء في صفوف المدنيين الذين كان «أوّلهم ابن أخي رائد ومعه عبد اللطيف خليل اللذان استشهدا بقذيفة قرب مركز الشفاء الطبي، ثم المدرّسة ليندا جبر التي أصيبت بقذيفة داخل منزلها، وبعدها أخي عبد الرحمن الذي أصابته رصاصة قناص أثناء عبوره الشارع باتجاه المجتمعين لمغادرة المخيم، وإلى جانبهم 40 شهيداً لا ناقة لهم ولا جمل».
وفي مناسبة عيد الجيش، يناشد أبو جورج أخيراً قائد الجيش الذي ربطته بالمخيم، «عندما كان على رأس اللواء الثاني»، علاقة جيدة، النظر إلى «أهلنا في المخيم من منظار إيجابي» بشأن نظام التصاريح، وخاصة أن «مسبّبات الحادث قد انتهت بعد ثلاث سنوات من الانتصار على عصابة فتح الإسلام».


الحر في «البراكسات»

في سياق موجة الحر التي تجتاح لبنان، تعيش مئات العائلات الفلسطينية في مخيم نهر البارد داخل أقفاص حديدية تسمى براكسات. مساحة الغرفة المخصصة لسكن عائلة مكوّنة من ستة أفراد تبلغ ستة عشر متراً مربعاً. يُقتطع منها متران لتركيب «مجلى» ومتر آخر للحمام. والغرفة تعلوها غرفة أخرى لعائلة ثانية. ويضطر سكان البراكسات إلى «طرد» أبنائهم للتجمّع في ساحات بعيدة هرباً من الحر الشديد، وهناك يستمع الأولاد إلى شتى أنواع «الكلام». ومع ذلك، ترى بعض الأوساط أن المخيم يمثّل بؤرة للفساد وتنفض أيديها من مسؤولياتها تجاه المخيم.