سعيد خطيبي
كان الصّغير حسين بوكلة يحلم فقط بمواصلة الدّراسة، والحصول على شهادة والتحليق بعيداً عن يوميات حي بلكور الشعبي الواقع في الجزائر العاصمة. كان يتمايل في مشيته على كآبة أغاني الأمازيغي سليمان عازم، وبحّة الشيخ أمحمد العنقى، ويحلم بإنشاء مختبر جينات في «جامعة باب الزوّار» كي يتباهى أمام الأصدقاء وأبناء الجيران بحلّة الباحثين: نظّارة كبيرة، مئزر أبيض طويل، وشارب صغير.
هكذا، نال الإجازة في علم الأحياء (البيولوجيا) والتحق بجامعة «السوربون» (1985) وحصل على درجة الماجستير، وتخصّص في علم الجينات. ثم انخرط في قسم سنة أولى دكتوراه وشرع في الاقتراب تدريجاً من حلمه: شهادة عليا من إحدى أكبر جامعات أوروبا! لكن فجأةً، في لحظة بين الوعي والجنون، بين الصّبر والتّلهف، شعر بأنّ الحياة بلا قيمة من دون المجازفة والتّجريب والإبداع. فإذا به يتخلّى عن حلم العمر، ويحمل الغيتار الكهربائي، ويتنازل عن هويّته السّابقة، ويتبنّى اسماً مركّباً هو «الشيخ سيدي بيمول». في أقل من 20 عاماً، صار «الشيخ سيدي بيمول» أهم أسماء الروك في المغرب العربي. «تخصّصت في البيولوجيا وعلم الجينات لأنهما يبحثان في أصل الوجود. واعتنقت الموسيقى لأنها تعبّر عن سبب الوجود وتمنحه قيمةً» يقول. لم يكن يسيراً التّخلي عن مسيرة أكاديمية، هادئة وناجحة، والقفز إلى عالم الموسيقى الذي تشوبه الفوضى.
وهذا المفترق في حياة بوكلة تزامن مع تحوّل شهدته الجزائر ويعدّ الأهم خلال السنوات الخمسين الماضية، وقد تمثّل في أحداث 5 أكتوبر 1988 التي نتج منها تعديل الدستور وإعلان التعدديّة الحزبية. ربما هي الصدفة التي حرّكت قدر بوكلة وأدخلته عالم الفن في سنة شهدت خلالها البلاد بداية حقبة العنف والدّم والعبثية التي قرر مواجهتها بلغة ساخرة: «لا أرى منفعةً في التّعاطي مع الواقع بجديّة. سلاحنا الأهم أمام التّحوّلات المتسارعة، والتّعسف هو التّهكّم».
من خلال ألبوماته الثلاثة الأولى «الشيخ سيدي بيمول» (1998)، و«البوندي» (من bandit أي اللّص، 2003) و«ڤوربي روك» (2007)، نلاحظ تركيزاً على كلمات أغانٍ مستنبطة من الحياة اليومية باللّغات الثلاث: العربية، والأمازيغيّة والفرنسية. أغنيات لا تبالي بالانسداد الحاصل، بل تنغمس في الحلم والمواجهة على غرار أغاني «البوندي» التي تسرد محنة الشاب علي الذي دفعته البطالة والظلم إلى الإجرام والسجن. وفي ألبومه الثالث، استعان الشيخ سيدي بيمول بالكاتب والصّحافي السجالي سيد أحمد سماعين، وهو محرر سابق في جريدة «لوماتان» المعارضة. ووقّعا معاً نصوص أغان تكشف عن سوداوية العيش في الجزائر، مثل «باب الميناء» التي تتعرض لقضية الهجرة غير الشرعية بين الشباب الجزائري، و«سعدية» التي تطرح عوائق تحرّر المرأة، و«ما تلومنيش» التي تعيد إلى الواجهة مسألة المفقودين و«والو» (لا شيء) التي تعدّ بمثابة بيان استقالة ورغبة في هجر الواقع الذي يسيطر عليه الظلم والبطش والتّعسف الرّسمي.
عرفت رحلة الانتقال من مدرجات الجامعة إلى منصات الحفلات عدداً من المحطات، تعرّف خلالها صاحب «لالة ڤرمية» إلى «الفنانين الملعونين» وهم مجموعة فنانين جزائريين، كانوا يقيمون في فرنسا ويعيشون حياة ترحال، واستطاعوا تأسيس حساسية مختلفة على غرار أمازيغ كاتب، وكريم زياد، وجمال لعروسي، وبعض العازفين الفرنسيين. على امتداد عشر سنوات (1987 ـــــ 1997)، كانوا يلتقون في مرأب في إحدى الضواحي الباريسية، ويشتغلون على النصوص والتّلحين، وإعداد حفلات كانت موجّهة فقط إلى الجالية المغاربية.
خلال تلك الفترة، أسّس الشيخ سيدي بيمول فرقة «لوزين» (المصنع) ثم «زلميت» (الكبريت) التي لم تدم طويلاً، وأخيراً الفرقة الحاليّة التي تحمل اسمه (1992) وتجوب العالم مغيّرةً الأحكام السائدة على الموسيقى المغاربية، وخصوصاً الجزائرية من خلال مزج الطبوع المحلية بالروك. يقول: «أركّز على عنصري المتعة والدهشة. حين يستمع إليّ جمهور أوروبي، يستمتع بالروك أولاً، لكنه سرعان ما يدرك أنّني أوظف طبوعاً غريبة عنه، مستوحاة من أرض المنشأ، وخصوصاً الطابع القبائلي الجزائري، والڤناوي والشعبي». ثم يستدرك قائلاً: «أهدف إلى هدم النظرة الإيكزوتيكية التي تحصرنا في بطاقات بريدية، من صور نخيل ونساء جميلات. لا أملك وصفة سحرية. لكنّني مقتنع بأن الموسيقى المحليّة التقليدية تحمل مخزوناً يمكن استثماره بغية تطويرها ونقلها إلى مناطق مختلفة من العالم». ويؤكد أن جملة التّأثيرات التي مرّ بها تمثّل سبباً في خياره هذا: «حين استمعت إلى الموسيقى التقليدية الاسكتلندية للمرة الأولى، وجدت تشابهاً كبيراً بينها وبين الموسيقى القبائلية في الجزائر. من هنا، راودتني فكرة الجمع بين الموسيقى المحلية والأجنبية الأخرى». كذلك يعترف بتأثير عازف القيثارة الكهربائية لطفي عطار (قائد فرقة «راينا راي» في الغرب الجزائري) على أدائه.
يواصل الشيخ سيدي بيمول مسيرته الفنية التي بدأها منذ أكثر من عشرين سنة، وتوّجت هذا العام بألبوم رابع هو «بوزغان ـــــ الجزائر ـــــ باريس» (نسبة إلى مسيرته الفنية التي انطلقت من قرية والديه بوزغان في منطقة القبائل، وأثبتت خصوصيتها في باريس، مروراً بالجزائر). هنا، أدّى دويتو بعنوان «بوجغللو» (الحلزون) مع نجم الأغنية القبائلية خلال السبعينيات، كريم أبرانيس. وفي أوقات الفراغ، يواصل سخريته من الواقع عبر رسوم كاريكاتورية يوقّعها باسم «الحو». وقد مُنعت في السابق في الجزائر ووصفت بـ«البذيئة». هكذا، اكتفى الشيخ سيدي بيمول بنشرها على مدونته الشخصية، ومجلة Pour. يقول: «أغنّي وأرسم ما أرى. لا أحبّذ عبارة فنان ملتزم. لا أنتمي أو أميل إلى أي تيار أو حزب سياسي». ويختم بنبرة تفاؤلية: «أرى أن الفن في الجزائر سيكون بخير لو يتحقق شرطا حرية التعبير والتقليل من سلطة رجال الدين».


5 تواريخ

1957
الولادة في حي بلكور الشّعبي في الجزائر العاصمة

1988
تخلّى عن دراسة الدكتوراه في علم الجينات وكرّس نفسه للموسيقى

1992
تأسيس فرقة تحمل اسمه، مع أمازيغ كاتب وكريم زياد

1998
إطلاق أول ألبوم بعنوان «الشيخ سيدي بيمول»

2010
إطلاق ألبوم رابع بعنوان «بوزغان ـــــ الجزائر ـــــ باريس»