قبل أيام استعاد داوود فرج ورفاقه ذكرى هروبهم من معتقل الخيام قبل 18 عاماً. وإن كان الإسرائيليون يستذكرون ما وصفوه «بالأسطورة» التي لم تتكرر في سجونهم، فإنها بالنسبة لداوود مجرد هروب إلى الحرية سيوثق وقائعه في كتاب يعمل عليه
آمال خليل
يقف أحد الأشخاص مقاطعاً وطالباً من المدرّب على «احتياجات ضحايا العنف والتعذيب»، أن يكون هو وتجربته جوهر الدورة التدريبية الذي دعاهم إليها مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب. سريعاً ما يحرّض زملاءه على فرض الأمر، حتى بدا من سمع منهم للتو بالتجربة أكثر حشرية لربط ماضي المدرب بحاضره. وليس السبب لأنه اعتقل في الخيام عامين وثمانية أشهر (منذ شباط 1990) فحسب، بل لأنه داوود فرج أحد أبطال «الهروب الكبير».
إلا أن داوود بدا هارباً من رواية هروبه مجدداً، مفضلاً أن يبدأ سرد تجربته عكسياً، أي من حاضره الذي صنعه لنفسه وصولاً إلى الماضي في الأسر. كأنه يريد أن يبرهن أن إرادة الإنسان تصنع المستحيل. يحب الأسير الذي حرر نفسه، بأن يتحدث عن الدكتوراه التي يحضرها عن «الصدمات النفسية من عدوان تموز 2006» وقبلها رسالة الماجستير التي خصصها لمعتقل الخيام. وبين الرسالات، يمرر داوود بعضاً من تفاصيل المهنة التي اختارها لنفسه بعناية: معالج نفسي. شق فرج لنفسه مكاناً يستقبل فيه من يشعر بالحاجة إليه، لا سيما بعد عدوان تموز الذي «مثّل تحولاً نفسياً كبيراً بين الناس». عيادة أولى في الحوش، ضواحي صور ثم أخيراً في المدينة نفسها.
يفضل دوواد أن يبدأ سرد تجربته من حاضره الذي صنعه لنفسه
قد يحتاج فرج، الذي سجن حين كان عمره 21 سنة، إلى استحضار بعض من تجربته كجزء من علاج حالاته. وإن لم يفعل في الظاهر، فإن لديه القدرة ضمنياً على «التشريح النفسي»، مستعيداً «نفسيته» إبان الاعتقال وبعده. فتراه في الدورة التدريبية تلك على سبيل المثال، يدرّب على أشكال العنف والكبت وسيكولوجية المعتدي والضحية، لا سيما في المجتمعات المتخلفة.
لكن الضحية سابقاً، لا يمكنه أن يربط تجربته الشخصية بالدعم الذي يروّج له للضحايا الآخرين مثل دمجهم في المشاريع الترفيهية والسياحية والاهتمام بصحته الجسدية والنفسية وخلق أحلام جديدة لديه وإبراز طاقاته... إذ إن داوود، بعد استيفاء المظاهر الاحتفالية والإعلامية به، ترك إلى مصيره وحده. فلم يجد مؤسسة أو حزباً يحتضنه ويستثمر طاقاته وهو لم يبلغ الثالثة والعشرين من عمره. اثنا عشر عاماً منذ التحرر، أمضاها داوود أسيراً للبطالة وللحاجة المادية ولعشرات الاعتصامات والإضرابات عن الطعام المطالبة بدعم الأسرى المحررين أمام المؤسسات الرسمية وصولاً إلى قانون التعويضات الذي شارك في صياغة بنوده، والذي لم يبدد شيئاً من «الذل الذي مورس ضدهم».
قرر داوود «أن يلحق نفسه»، في إشارة إلى المصير الذي انتهى إليه المئات من المعتقلين الذين فوّتوا أو فوّت عليهم بأن يندمجوا مجدداً في الحياة الاجتماعية، فيؤسسوا أرضية اقتصادية وثقافة علمية جيدة. من هنا، فقد مثّلت أفريقيا بثرواتها الطائلة، مقبرة له ومعتقلاً جديداً بديلاً من الخيام. حرر نفسه للمرة الثانية وهرب من أفريقيا التي أجبره على غربتها لثمانية أشهر «إهمال الدولة والمؤتمنين على الوطن».
وإلى الجامعة اللبنانية في صيدا لدراسة الاختصاص الذي حلم به إثر نيله شهادة الثانوية قبل اعتقاله: علم النفس. الطالب الكبير في عمره والصغير بحاجته إلى «مصروف» عائلته، كان يكفيه أن يمتلك أجرة الطريق من بيت العائلة في منطقة الحوش حتى صيدا. مثابرة جعلت طريق العلم معبداً، فأوصله لاحقاً إلى العمل حيث أصبح بداية أستاذاً في مهنية بنت جبيل الرسمية ولاحقاً معالجاً نفسياً في عيادته الخاصة.
لم يتلق داوود طلب مساعدة نفسية من أحد رفاق الأسر
بعد سرد مرحلة ما بعد الاعتقال، يشرع داوود باستعادة واقعة الليلة وما قبلها باستعجال، كأنها أصبحت بنظره تفاصيل بنيت عليها النتائج العلمية والمهنية التي ظهرت لاحقاً. إلا أن محاولته كانت تبوء بالفشل بين محطة وأخرى حتى يصبح هو نفسه حالة مطروحة أمام معالج نفسي. بانفعال وتنهيد وصمت لا يزال داوود يروي هروبه الكبير من موت الخيام بعد مرور ثمانية عشر عاماً. إذ ليس هيناً عليه أن يروي كيف أن فيلم «الهروب الكبير» الذي حكاه محمد عساف ذات ليلة، كان شرارة الخطة. وفي أي فرصة، تكاد تظهر جلية صدمة الاعتقال لدى داوود ليس بسبب التعذيب والإذلال الذي لقيه في معتقل الخيام على أيدي الإسرائيليين وعملائهم، بل لما عاشه في مرحلة ما بعد الاعتقال حيث تأكد «أن البطل والمقاوم رخيصان». وكان قبل 12 عاماً قد أنجز توثيق قصة هروبه من المعتقل مع رفاقه في الزنزانة محمد عساف وسعود أبو هدلا ومحمود رمضان، في كتاب «دهاليز الخيام ــــ على بوابة الوطن» المنشور حينذاك. وفيه أعطى وصفته الخاصة للحرية أن وسعوا قضبان باب الزنزانة الحديدي بخيطان صوف أوصلته مع محمد فحسب، بعد ساعات الى خارج المنطقة المحتلة بالزحف بين حقول الألغام والأسلاك الشائكة.
حتى الآن، لم يتلق داوود طلب مساعدة نفسية من أحد رفاق الأسر لأن «معظمهم أضعف من اتخاذ المبادرة رغم حاجتهم الماسة لديها». لكنه يتولى التأهيل والدعم النفسي لللاجئين العراقيين الذين يهتم بهم مركز الخيام.


في عيد جبهة المقاومة

لم تكن مصادفة أن يختار فرج توقيت تنفيذ الهروب مع ذكرى تأسيس جبهة المقاومة الوطنية «للتأكيد على خيار المقاومة سبيلاً إلى الحرية». سبب آخر للهروب في أيلول عام 1992 كان توجيه «رسالة قاسية إلى السياسيين الذين أنهوا لتوهم صراع الكراسي في الانتخابات النيابية».