وأدركهم فجأةً الرادار، ففقدوا البوصلة وأصبحوا تائهين يتلمّسون واحة تطفئ ظمأ السرعة والمخالفة، اللتين تسريان في عروقهم. يهيمون في مركباتهم بحثاً عن منطقة خالية من عيون الرادارات التي وُزعت في كل مكان. رادارات منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو مخفيّ، أي إنها تَرى ولا تُرى
جنى نصر الله
السائق مراقَب لا محالة، إذ قررت الدولة اللبنانية أخيراً أن تربّيه وتجعله «يمشي على العجين وما يلخبطوش». مر أكثر من أسبوعين على هذه الواقعة، وحال السائقين يرثى لها. فاتّباع النظام بعد فوضى نشأوا عليها وترعرعوا في ظلها، وحصلوا على رخص القيادة في كنفها ليس مسألة سهلة، وخصوصاً أن القيادة في لبنان لم تكن تنمّ عن ذوق، بل كانت في معظم الأحيان دليلاً على قلة ذوق، التي تعادل في القاموس اللبناني، الشطارة.
أما وقد حُدّدت الساعة الصفر وبدأ العمل بنظام الرادارات، فلا خيار آخر سوى الالتزام تحت طائلة دفع 50 الف ليرة عند كل مخالفة في المرحلة الأولى، و«الخير لقدّام». ويبدو أن حرص السائقين على جيوبهم يفوق حرصهم على أرواحهم، ذلك أنّ الالتزام بالسرعات المحددة كان لافتاً، أو لعله التزام كيديّ نكاية بوزيرة المال ريا الحسن، إذ إن ضبط السرعة ليس سوى ضريبة غير مباشرة تغذّي خزينة الدولة، وتفقر المواطن، الذي لا يحصد أيّ فائدة جراء دفعها، وخصوصاً أنّ هذه العائدات لا توظّف في مشاريع تحسين الطرق وتوسيعها وخلافه.
مهما تكن أسباب التقيّد بقوانين السير وموجباته، فإن ذلك لا يقلل من جمالية مشهد حركة السيارات في الشوارع، حيث تذكّر بتلك السيارات الملوّنة المربوطة بأسلاك كهربائية تحدّد سرعتها في مدينة الملاهي. وكما أن كل عنزة «مربوطة بكرعوبها»، فقد أصبحت كل سيارة مربوطة برادار يشلّ حركتها. هكذا يسخر السائقون من قوانين القيادة التي فرضت عليهم أو جاءتهم على غفلة في عزّ انهماكهم بقضايا وطنية ومصيرية كبرى. ألم يكن ممكناً مثلاً تأخير العمل بنظام الرادارات الى ما بعد صدور القرار الاتهامي باغتيال الحريري؟ إذ كيف يمكن أن تقود بسرعة أقصاها 100 كلم على قرع طبول الفتنة، أو كيف يمكن أن تضبط دعسة رجلك على دواسة السرعة حين يطالعك تصريح ناري لأحد السياسيين عبر الإذاعة، رفيقة دربك في السيارة؟
ثمة من يفضّل أن يقارب الموضوع من منظار مختلف ويذهب الى تشابيه أكثر رومانسية، فيرى أن السيارات تتحرك «مثل اللي عم يكزدر صاحبتو على الكورنيش». إذ إنها تسير على مهل وفق إيقاع مضبوط حيث لا تجاوز، ولا نقر للأبواق، ولا تغميز بالضوء يعمي بصيرة السائق لأن سائقاً خلفه على عجلة من أمره وقد لعلع أضواءه طالباً إفساح الطريق أمامه.
غابت كل هذه المظاهر وأصبحت القيادة مضجرة وتفتقر الى الإثارة التي تحوّلت الى تحد غير معلن بين السائق والرادار. أيهما ينجح في تسجيل نقطة في مرمى الآخر؟ لذا، بات السائقون يحتاجون الى أكثر من عينين أثناء قيادة مركباتهم: واحدة لمراقبة الطريق أمامهم، وثانية لمراقبة عدّاد السرعة، وثالثة لرصد الرادارات وتحديد إمكان وجودها على أمل التحايل عليها في المرة المقبلة. أما من تعطّل عداد السرعة في سيارته، فيحتاج الى عين رابعة ليسترق النظر الى عدّاد السرعة في سيارة محاذية، والتأكد أنه لا يزال يسير ضمن «الصراط المستقيم»، وإذا تعذّر عليه الأمر، فسيستعين بصديق يجلس بجواره للقيام بالمهمة، أو ربما يخرج رأسه من النافذة ويصرخ لزميله السائق: «معلم ادّيش العداد معك؟»، تماماً كما حصل مع أحد السائقين، الذي خانه عدّاد السرعة في سيارته، وكاد أن يدخل في المحظور لولا الاستعانة بعداد جاره في الوقت المناسب. وإذا كان هناك أكثر من شخص في السيارة، فعندها تتوزع المهمّات، وخصوصاً إذا كان السائق مصراً على تجاوز السرعة المحددة. ففيما يهتم هو بشؤون القيادة يتفرغ رفيقه لاكتشاف مواقع الرادارات، فيما ينهمك شريكهما الثالث في تفقّد موقع وزارة الداخلية الإلكتروني عبر الهاتف الخلوي للتأكد ما اذا كانت قد سجلت بحق السائق أيّ مخالفة سرعة. هكذا، تصبح الرحلة الى الجنوب مثلاً ممتعة ومسلية ومثيرة، كما وصفتها إحدى المشاركات في مغامرة «التسابق مع الرادار جنوباً»، ووعدت نفسها بخوض مغامرة مماثلة شمالاً على أمل أن تكون أكثر إمتاعاً، فالطرق هناك أكثر اتساعاً لا يمكن معها مقاومة إغراء السرعة لهواة النوع.
هكذا جاءهم الرادار «شحمة على فطيرة»، وخصوصاً أنّ اللبنانيين لا يفوّتون أيّ تفصيل صغير في حياتهم العامة من دون أن ينسجوا حوله قصص ألف ليلة وليلة، فكيف إذا كان الموضوع بحجم رادار؟ تطور جديد في حياتهم أخرجهم من قمقم المحكمة الدولية وتوابعهما، وخصوصاً أنهم استنزفوا كل طاقاتهم في ابتداع القصص والطرائف، وكانوا في أمسّ الحاجة الى جديد يسليهم ويعيدهم الى ميدان الهرج والمرج. فكان الرادار الذي لم يحظَ استخدامه في أيّ بلد في العالم بما لقيه من اهتمام وجدل وأخذ ورد في لبنان، حيث لا ينضب بئر الانتقادات بين مؤيّد ومعارض. فبعد أقل من 24 ساعة على بدء العمل بنظام الرادارات، استنفرت كل الطاقات للتحايل عليه، منها ما هو معروف وشائع في العالم مثل تنزيل البرنامج المعطل لعمل الرادار على الهواتف الخلوية، الى اختراعات يدوية من نوع رش لوحة السيارة بمثبّت الشعر الذي يحول دون قراءة الرادار للوحة، كما يقول العارفون الذين يقترحون أيضاً بدائل أخرى، منها تغليف اللوحة بكيس نايلون.
قائمة التعليمات وصلت الى معظم الهواتف الخلوية، أو انتشرت بواسطة البريد الإلكتروني تعميماً للفائدة، ولم يكن يضاهيها في سرعة انتشارها سوى التعليقات والنكات التي نسجها المواطنون عن عمل الرادارات، منها مثلاً: اذا كان عندك «واسطة» الرجاء إبرازها عبر نافذة السيارة بما يتيح للرادار تصويرها، والداخلية تهتم بالباقي. سيدتي الرجاء الاهتمام بمظهرك، لأن الرادار يلتقط صورة السائق عن قرب، ويحتفظ بها في ملفات وزارة الداخلية.
... قالت له: «من أين جاءتنا مصيبة الرادار، ما بقى فيك تبوسني بالسيارة، بتطلع صورتنا»، فأجابها: «لا تخافي، عم بوسك على مهلي»!


رادارات للزحمة؟

حققت الرادارات الغاية المرجوّة منها، إذ تضاءلت أعداد حوادث السير. ولكن كيف السبيل الى حل زحمة السير؟ ربما يفترض بوزير الداخلية زياد بارود تكرار تجربة شرطي السير، التي خاضها قبل نحو عام حين تولى فتح الطريق بعدما علق في زحمة خانقة في الصيفي؟ البحر أمامكم، وأزمة السير المضاعفة بسبب الأعياد المقبلة وراءكم!