سعيد الصبّاح«إنّ الكرسي الرسولي ينضم إليكم ليشكر الله على تحقيق تطلّعات الشعب العبري بامتلاك منزلٍ على أرض أجداده...». (من كلمة ترحيبية ألقاها البابا بنديكتوس السادس عشر لدى تسلّمه أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد لدى الفاتيكان).
لا بدّ من أن تفتح كلمة البابا بنديكتوس السادس عشر الحوار واسعاً عماذا يعني بـ«أرض الأجداد»؟ عندما تذرّع العديد من المؤرخين الصهاينة بحجّة مفادها أن لليهود في «الدياسبورا» الحق بأرض فلسطين، لأنها كانت «أرض الأجداد منذ ما يناهز الألفي سنة»، ردّ المؤرخ أرنولد توينبي بالقول إن هذا المنطق يعطي العرب، الذين فتحوا الأندلس وأقاموا دولتهم فيها حوالى 500 سنة، الحق بالعودة إلى هذه البلاد، وإعادة بناء دولتهم مجدداً في ربوعها.
وهناك واقعة هامّة يجب الوقوف عندها بعمق، ألا وهي عدم العثور على أي أثر عبري في فلسطين، حتى أن الحفريات التي أجرتها الدولة العبرية في القدس، في العمق وعلى سطح الأرض، لم تؤدّ إلى العثور على أي لوحة أو جرّة أو حائط أو قطعة نقدية أو حلية تدل على الوجود اليهودي في فلسطين في العصور الغابرة.
أما الوجود العربي في الأندلس فما زالت معالمه الحضارية ماثلة للعيان، وهي شاهدة على نهضة علمية وثقافية وفكرية امتدت عبر القرون.
وبعدما طُرد العرب من الأندلس، وكذلك اليهود، وبقي منهم مَن بقي، تولّت محاكم التفتيش، التي رعتها الكنيسة الكاثوليكية، أمر اجتثاث الباقين، عبر القتل أو إرغامهم على تغيير معتقدهم الديني بالقوة. إن هذا «المنزل العبراني» بُني بقوّة السيف على أرض فلسطين، بعدما دُمّر «منزل فلسطيني»، أو هُجّر ساكنوه، عمره آلاف السنين، وطُرد أهله ومُنعوا من العودة إليه، بينما جُلب مهاجرون يهود من مختلف الأصقاع.
الحركة الصهيونيّة عنصرية، فكيف لا تكون كذلك؟ إذ إن دولة إسرائيل التي أقامتها ارتكزت على أساسين:
الأول: إعطاء الحق لكل يهودي موجود في أي بقعة من بقاع العالم بالقدوم إلى «أرض إسرائيل»، وإعطائه الجنسية فوراً، وتأمين المنزل والعمل له في هذه الدولة.
فمَن هو اليهودي؟
ما زال هذا السؤال يثير جدلاً واسعاً في إسرائيل وفي «الدياسبورا» اليهودية، وحتى الآن لم تعط إجابة واضحة ومحددة عن هذا السؤال، مما أفسح المجال لهجرة الآلاف من «الفالاشا» المشكوك بيهوديتهم، فضلاً عن عشرات الآلاف من الروس «الأرثوذكس» الذين تظاهروا بأنهم من اليهود.
الثاني: طرد حوالى 780 ألف فلسطيني من أرضهم، وفقاً لما أورده الباحث الإسرائيلي بني موريس، نتنيجة لقرار جماعي من الزعماء الصهاينة أدى إلى تمهيد الطريق للخروج الفلسطيني عام 1948، وأن الجانب الأعظم من هذا الخروج حدث بسبب أعمال القتل وأوامر الطرد التي نفّذتها قوات الهاغاناه.
وكانت المجازر وتدمير المنازل ومصادرتها، ومنع مَن هُجّر من العودة داره. أما مَن بقي من الفلسطينيين، نتيجة لظروف متعددة، فقد فُرض الحكم العسكري عليه حتى عام 1966، وارتكبت بحقه المجازر، كمجزرة كفرقاسم عام 1956. والعديد منهم هُجّر من بلداته وقراه، وأقام في مناطق أخرى ضمن «الكيان الصهيوني» فضلاً عن عشرات القرى غير المعترف بها، والمحرومة من كل الخدمات الحياتية الأساسية، ناهيك عن اقتطاع عشرات آلاف الدونمات من أراضي العرب لأجل «الاستيطان اليهودي»، مروراً بسياسة ترحيل لقطاع واسع من السكان العرب، كما حصل ويحصل لبدو النقب.
ما هو «المسوّغ» الذي ارتكزت عليه دولة إسرائيل حين قيامها؟
شرعنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدولة العبرية حين أصدرت في 29/11/1947 القرار 181 الذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية، وعلى إخضاع مدينة القدس للإدارة الدولية.
هناك شبه إجماع من أساطين القانون الدولي العام على كون الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تجاوزت صلاحياتها بإصدار هذا القرار، إذ منحت مَن لا يستحق «الحق» باغتصاب أرضٍ عائدة للغير، وله حق ملكيتها منذ آلاف السنين.
ورغم إجحاف هذا القرار بحق العرب، فإن الصهاينة قد قبلوا به تكتيكياً، واستعملوا وسائل القوة والخداع من أجل خرقه، وتجاوز الحدود التي رسمها.
بعد الهدنات التي أعقب حرب 1948، أبدى رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون أسفه لأن الهاغاناه لم تحتل الضفة الغربية بأكملها.
أما بالنسبة لمنطوق قرار التقسيم والحدود التي رسمها للدولة اليهودية، فضلاً عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، فقد تعهد الكيان الصهيوني في طلب الانتساب للأمم المتحدة، بتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة المرتبطة بهذه القضايا.
وبالتالي، فإن الدولة العبرية أصرّت على رفض عودة اللاجئين إلى ديارهم، كما نصّت الفقرة 11 من القرار 194 الصادر في 11/12/1948. وبعد عدوان حزيران 1967 رفضت إسرائيل العودة إلى حدود 5/6/1967، وتحديداً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل عمدت إلى ضم القدس الشريفة إلى الدولة العبرية، كما فعلت بالجولان السوري المحتل.
«المسألة اليهودية» وأهم محطاتها الإبادة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا الشرقية، ناهيك عن «المحرقة» النازية، هي نتاج للحضارة الغربية، كما يقول الباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري. وكان «الهولوكوست» وسط صمت مريب من الكنيسة الكاثوليكية، كما أظهرت الوثائق التي نُشرت عن أحداث الحرب العالمية الثانية.
فتوحّد «المعتدى عليه» وهو اليهودي، بالألماني «المعتدي»، وكانت النتيجة قيام دولة إسرائيل على أنقاض شعب فلسطين المتشبّث بأرضه منذ آلاف السنين.
إذا ما قارنّا بين الكيان العنصري «البائد» في جنوب أفريقيا والكيان الصهيوني «السائد» في أرض فلسطين، نستطيع استخلاص المقارنة التالية:
1ـــ في جنوب أفريقيا أزاح المستوطنون البيض جزءاً يسيراً من السكان الأصليين إلى مناطق أخرى ضمن دولة جنوب أفريقيا، وبقي السكان الأفارقة يمثّلون الغالبية العظمى من سكان هذه الدولة، لكنهم حُرموا من الحقوق المدنية والسياسية وعزلوا في «بانتوستانات» ومُنعوا من الاختلاط بالبيض.
2ـــ في إسرائيل: جرت عملية طرد ممنهجة للسكان العرب الأصليين الذين تحولوا إلى أقلية توازي 20% من سكان «الكيان الصهيوني».
صحيح أنهم قد أُعطوا حق الاقتراع، ورفع عنهم الحكم العسكري في عام 1966، لكنهم يُعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية في مختلف المجالات.
وكانت ثالثة الأثافي ورابعة المصائب: اعتبار دولة إسرائيل «دولة يهودية»، وهذا يعني أمرين هما:
أولاً: تكريس «حق» كل يهودي موجود في أي بقعة من بقاع العالم بالمجيء إلى هذه الدولة وتمتعه بكل حقوق المواطنة، كاملة غير منقوصة.
ثانياً: إلغاء حق العودة الذي كرّسته قرارات الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين وتكريس هذا الإلغاء بصورة نهائية.
ثالثاً: إمكان شطب كل الحقوق والمكتسبات التي حصلت عليها «الأقلية» العربية في إسرائيل، ويبقى احتمال ترحيلهم «الترانسفير» قائماً.
فهل يمكن التوفيق بين «الدولة اليهودية» و«الديموقراطية»؟ والجواب بالطبع: لا. ويطرح تساؤل بمنتهى الصراحة: هل يمكن الاستنتاج من قول البابا بنديكتوس السادس عشر عن امتلاك اليهود بيتاً في أرض الأجداد، السير وفقاً لنهج المسيحانية «التدبيرية» التي تؤمن بأن عودة «الشعب المختار» إلى «أرض الأجداد» ومن ثم إعادة بناء هيكل سليمان، هو تمهيد للعودة الثانية للسيد المسيح حيث ينصّر «اليهود».
لم تكتفِ دولة إسرائيل بتهويد الأراضي المحتلة في عام 1948، بل عمدت إلى ضم القدس الشرقية وتهويدها، وبناء المستوطنات المدروسة والعشوائية في كل أرجاء الضفة الغربية التي قُطّعت أوصالها، وصودرت أراضيها، وبُني جدار العزل العنصري الذي ابتلع قسماً كبيراً من أراضيها.
أما الجولان، فقد ضمّته إسرائيل إليها، وعملت على بناء مئات المستعمرات فوق أرضه، وتبقى «وديعة رابين» و«رسالة أولمرت» نوعاً من الكلام المربوط بشروط «المسكوب»، كما يقول العامة.
هذه هي الدولة التي يقدم لها الدعم تلو الآخر من الهيئات الروحية والزمنية في الغرب، ويُنظر إليها بصفتها: واحة الديموقراطية وسط شرق استبدادي!
في القرون الغابرة قال أحد الفلاسفة الأوروبيين متهكّماً: «كم هي بائسة تلك العدالة التي تحدّها جبال البيرنيه، وكم هي تعيسة تلك الحرية التي يحدها مجرى نهر!».
أما أسطورة «شعب الله المختار»، فإن أفضل الداحضين لها هو العالِم الشهير (اليهودي الأصل الإنساني النزعة) ألبرت آينشتاين الذي أورد في رسالة حرّرها في 3/1/1954 ما يأتي: «أنا لا أعتقد أن اليهود شعب الله المختار». وتابع قائلاً: «... والشعب اليهودي الذي أنتمي إليه بسرور، والذي أحتفظ له بشعور عميق، لا يملك صفة خاصة بالنسبة لي تميّزه عن جميع الشعوب الأخرى».