من المقلق أنه كلما تقدمت المرأة في العمر وتقدمت معها مخاطر الإصابات السرطانية، كلما تأخرت عن زيارتها الصحية الدورية وكلما تحاشت إجراء فحوصات التقصي المبكر عن تلك السرطانات والأمراض. لا يجري القلق على خدمات الحمل حيث تقوم الحوامل بزيارات متكررة وأحياناً غير ضرورية للاطمئنان على صحة الجنين، وبالتالي ليطمئن قلب العائلة ويثلج صدرها.
تبدو هنا المقارنة ملحّة ويبقى السؤال: لماذا لا تذهب النساء للمتابعة الصحية بعد الانتهاء من ماراتون الحمول والولادات؟ متابعة تعزز صحتهنّ الإنجابية والجنسية، وتحميهنّ من إصابات سرطانية ومرضية هنّ بغنى عنها في مرحلة عمرية فيها الكثير من العطاء والفرح وتتطلب صحة جيدة وعافية مستديمة.
"ما بدي أعرف شو معي" أكثر الإجابات التي تبرر عدم المتابعة، "الكاتبو ربنا بدو بصير"، "إذا بعرف عندي هيداك المرض بموت دغري"، وغيرها وغيرها من التبريرات التي تعكس واقعاً معقداً لا يضع صحة المرأة في مستوى صحة الأم، إلا في ما هو طارئ أو يستوجب الاستشفاء السريع. قد تقوم المرأة خلال حمل واحد في عام واحد بزيارات طبية أكثر بكثير مما تقوم به خلال حياتها بعد إتمام الحمل والولادة. لا يقل عبء الاعتلالات الإنجابية والنسائية أهمية وتأثيراً على صحة المرأة عن عبء الحمل والولادة.
يفقد العالم سنوياً نفس أعداد النساء تقريباً للحمل والولادة كما لسرطان عنق الرحم، بما تتجاوز ٢٧٥٠٠٠ امرأة، وتذهب مئات آلاف من نساء أخريات ضحايا لسرطانات الرحم والمبيض وغيرها من السرطانات النسائية، يقع القسم الأكبر منها في البلدان النامية. كل عام يتم تشخيص مليوني امرأة بسرطانات الثدي وعنق الرحم، وكل عام تُظهر الإحصائيات عن تسجيل ٩٠٪ من وفيات سرطان الثدي و٧٠٪ من وفيات سرطان عنق الرحم من العالم النامي.
أنقذ الطبيب، جورج بابانيكولاو، القادم من إحدى قرى اليونان النائية إلى أهم جامعات الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن الماضي، ملايين من النساء من سرطان عنق الرحم - ولا يزال - عن طريق اكتشافه المذهل لفحص مسحة عنق الرحم أو ما يسمى "فحص القزازة" والتي تتقصى مبكراً عن مخاطر الإصابة بسرطان عنق الرحم. بعد مرور عشرات السنين ما برح استعمال هذا الفحص من قبل النساء وما برح تقديمه من قبل الرعاية الصحية في أغلب دول العالم الثالث متدنياً. لا يشذ لبنان عن هذه القاعدة لجهة تدني استخدام فحص القزازة بنِسَب لا تتجاوز ١٥-٢٠٪ عموماً.
السبب في قلة استعمال الفحص يعود إلى عدم إدراك النساء الكافي والجدي لأهميته، ولتراخي الأطباء والنظام الصحي في التثقيف المستمر والدعوة لإجرائه، ولأسباب أخرى مادية واجتماعية ثقافية.
لا يخطف السرطان حيوات النساء فقط، بل يخطف من أعمارهنّ سنوات وسنوات ويتركهنّ مع أعباء مرضية ترهق حياتهنّ ويسلبهنّ الصحة الجيدة ونوعية الحياة اللائقة. لا يبدو أن نسب انتشار السرطان إلى انحسار، بل إلى ازدياد. بين عامي ١٩٩٠ و ٢٠١، زاد انتشار مجمل السرطانات بنِسَبٍ تراوحت بين ٩٪ لسرطان عنق الرحم و٢١٧٪ لسرطان البروستات، ومن المرجّح لذلك المسار التصاعدي أن يبقى متصاعداً نظراً إلى ارتفاع معدل الأعمار ونظراً إلى ارتباط مخاطر الإصابة بالسرطان بتقدم العمر.
بحلول عام ٢٠٣٠، سيشهد العالم حوالى ٢٢ مليون إصابة جديدة بالسرطان، وسينعى وفاة ١٣ مليون شخص ضحايا للسرطان، وسترتفع أعداد المسنات والمسنين وترتفع مخاطر إصابتهم بالسرطان. تضع هذه التوقعات والأرقام المأساوية النُظُم الصحية والمؤسسات الأكاديمية أمام تحديات جمّة تلزمها إعادة ترتيب أولوياتها، والعمل لوضع تقصّي وعلاج السرطان على قمة هذه الأولويات. لم تفعل ذلك أهداف الألفية للتنمية، وتم التعويض بأهداف التنمية الاجتماعية ٢٠٣٠.
في لبنان قامت الجامعة الأميركية في بيروت بتطوير "مركز متميز" للسرطان في مركزها الطبي ليواكب المسار الوقائي والعلاجي السرطان عالمياً، بعد النجاح في إتمام قانون منع التدخين، وإنجاز "حرم جامعي خالٍ من التدخين"، كما تحاول وزارة الصحة أن تعزز الوقاية والرعاية في ما يتعلق بأمراض السرطان رغم السقطات، والأهم سعيها الدائم لزيادة التقصي عن طريق حملات التوعية (لنا عودة لها).
الحدّ من السرطان والسيطرة عليه من أهم مؤشرات نجاح النظام الصحي والسياسة الصحية الاجتماعية في أي بلد. في الصحة لا تنفع الشطارة، في الصحة لا ينفع إلا الالتزام الأخلاقي والمهني.
* اختصاصي جراحة نسائية
وتوليد وصحّة جنسية