نسيم الخوري *هل ينقرض الورق، فلا نعود نراه سوى في الأفلام؟ عندما طرحت منذ عقدين، فكرة موت الكتابة في مهلة أقصاها 2025 في أطروحتي بعنوان «الإعلام وانهيار السلطات» (مركز دراسات الوحدة العربية)، جنّ جنون اللجنة المناقشة لهذه المجازفة العلمية. لكن يبدو أن الزمن الضوئي يقوى كلما ضمر، ويشحن بطاقاتٍ خيالية قادرة على التهام كلّ شيء من دون أي مضغٍ، لا كما يحصل في استهلاك الزمن العادي الناعم لأطباق لا تنتهي من الأجيال البشرية والكائنات الحية الأخرى.
فهل نصدّق مثلاً أن مكتبة رأس بيروت قبالة الجامعة الأميركية قد تتحول إلى مطعم؟ أسسها المرحوم الدكتور أنطوان غطّاس كرم الذي أسميناه «معذب الأبجدية» عند موته بالقبعة البرجوازية وكتاب «عبد الله» الذي حاول أن يتجاوز فيه تخوم جبران. كان أستاذنا في النقد الأدبي في كلية التربية معقل الثورة اليسار والتغيير، كما كان أستاذاً ومديراً لدائرة اللغة العربية في الأميركية. وكانت مكتبته وكأنها خطوط تماس بين اليسار واليمين، بين الجبارين في حربهما الباردة. التصق اسم الجامعة باسم المكتبة التي كنت ترى فيها طلاب العرب ومثقفيهم وثورييهم يتناولون لقاحات التغيير من الكؤوس الماركسية اللينينية التي كانت ترفع في هذه المكتبة الصغيرة بالذات. وعندما سقط جدار برلين، قلنا: بقيت مكتبة رأس بيروت وعاندت التاريخ. هل نتصوّر أن كشك بيع الصحف العالمية وبمعظم اللغات الذي يشغل ساحة جامعة هارفرد في بوسطن وطلابها وأساتذتها منذ أكثر من نصف قرنٍ والمسمّى بـ«آوت أوف تاون نيوز»، بدأ يقبع الآن من الساحة؟
مات الورق أو هو على طريق الموت فعلياً. فشركة غانيت التي تنشر 885 صحيفة يومية وغير يومية في أميركا وحدها، بالإضافة إلى تملكها 24 محطة تلفزيونية، بدأت تغرق أكثر فأكثر في الكتابة الضوئية، وسيكون 20 بالمئة من موظفيها في البطالة قبل نهاية هذا العام. وقد سبقتها «كريستشن ساينس مونيتور» الصحيفة اليومية الأميركية الكبرى التي تأسست منذ مئة عام بالإعلان عن توقف صدورها ورقياً لتصدر على الإنترنت في مطلع نيسان المقبل. وطبعاً ليس كذبة على الإطلاق لمن يتابع الطلاق الكبير الحاصل بين الورق والحبر.
غداً ستعود الأسماك إلى المحيط، بعدما عصرناها قروناً حبراً كان يمحوه المحيط في زلازل أو كوارث تدمر المكتبات والمدن الشرقية، أو في ماكنتوش مبدع رفع التفاحة المقضومة شعاراً للكومبيوتر الأول الذي أوجده للاستعمال الشخصي، مقتبساً العلاقة الأولى بين آدم وحواء الموصولين بحبة من التفاح الأحمر.
هناك توقّع بموت الكتاب والصحيفة في زمن الكتابة الإلكترونية، وزوال تكديس المجلات والصحف والكتب في المكاتب والمدارس والجامعات، بعد ولوج عصر التخزين الضوئي الترقيمي، وولادة النبع الإلكتروني الذي لا ينضب، واضعاً في تصرّف البشر مكتبات جوّالة زهيدة الأثمان وفي متناول الجميع. وإنّ توقع مبيع خمسين مليون عنوان إلكتروني خلال نهاية عام 2009، بعد ظهور مبيعات عالية في عالم النشر الفرنسي Start-Up الذي جاء بعد عامين على ظهور الكتب الإلكترونية في أميركا، يدلّ على متغيّرات كبرى في عالم الطباعة والقراءة والكتابة على السواء.
استفادت الصحافة قبل غيرها، إذاً، من الكتابة الإلكترونية التي تشغل الشاشات والعقول، وألغت مجموعة من العادات البشرية الكتابية التي طالما حفلت بتاريخ الحبر والورق والكتب والقراءة. وصرنا نشهد أفكاراً واقعيّة نعانيها تقدّر «نهاية عمر الورق والكتابة التقليدية وتحوّلها إلى تحف أو هدايا في مرحلة أقصاها عام 2025، حيث ستسقط نهائياً كلمة كتابة من المعاجم في معناها القديم الحافل بالمكبوتات، ويصبح تعريفها الجديد في مادة كتاب: أنه مادة تقرأ على الشاشة الصلبة أو اللينة، وتطوى في الجيب. وبهذا يتحقق مختصر مشروع فوليو في جامعة «كارنغي ميلون» الأميركية، حيث أنجز اختراع شاشات الـ L.S.D. القابلة للطي في الجيب، وعند فتحها تعود شاشات تقليدية ملموسة أو حتى ضوئية خاضعة لمصدر كهربائي أو لبطارية صغيرة جداً.
تثير هذه المتغيّرات، حتماً، نقاشات وملاحظات اعتراضية لما يحصل، إذ يكمن الفارق الجوهري بين الصحافة الإلكترونيّة والعاديّة في أن المعلومات المنشورة على الإنترنت قابلة بصورة مستمرة للمراجعة والحفظ، بينما الصحيفة ثابتة ومهددة بالقدم. إنها معلومات دائمة الحركة والانسياب وخاضعة بسهولة للتبدل والتجدد والإلغاء بما يطول القراءة والكتابة.
لا يعني هذا الكلام في إيجابيته أنّ لا عوائق تحول دون نجاح الصحيفة الضوئيّة. فعدد القراء أو المبحرين الذي يستحيل تعداده فوق أغواء «الماوس» التي تفتح الفضاء أمامنا، والقراءة المتعبة على الشاشة والنفور من النصوص الطويلة، وتكاليف الإنتاج التي هي نظرياً سهلة لكنها ليست في متناول الناس كلهم، وضرورة الانتظار في تصفح الصحيفة على الشاشة... كلها أمور قد تحدّ من نجاح العملية الضوئية في الصحافة وتبقي الكتاب من المسائل الثابتة الجوهرية. صحيح أن وظائف أساسيّة تنتفي في الصحافة الإلكترونية، إذ يمكن لقارئ الصحيفة المكتوبة خلال القراءة أن يباغته موضوع أو عنوان أو صورة لا تهمه أساساً، فيقفز فوقها في تحقيق لذّة «التسكع» أو التصفح وهي متعة يُحرم منها في القراءة على الشاشة. ولو تتابعت الصفحات، فإنّ مشاعر القراءة وطرائق انتقال النظر تختلف تماماً بين الورق والشاشة... إنّه على أي حال تسكّع لا يكلف شيئاً، بينما يتطلّب وقتاً وتكلفة ولو زهيدة قد لا تقاس بثمن المطبوعة. يمكننا بلمح البصر، وفقاً لمقولة «التسكّع» الانتقال من صفحة إلى أخرى طرداً أو عكساً، والاحتفاظ بالانتباه والتقابل بين صفحتين، وقلب الصفحة، والذهاب إلى أخرى، فالعودة إلى صفحة سابقة... وهي أمور لا توفّرها الشاشة الإلكترونيّة.
وقد لا ترضي هذه الآراء في طرائق صناعة الصحف وعاداتها، أجيال الشباب الذين لم يدركوا أو يتحمّسوا لمثل هذه المسائل أو العادات، وهي لا تعنيهم كثيراً في رسم لذات القراءة والكتابة. لكن هناك اتجاهاً، مثلاً، للحدّ من هذه العوائق والعادات عن طريق صناعة مفكرة أو دفتر صغير محمول وخفيف وزهيد الثمن يسمح بقراءة الصحف وكأنّها ورقية. وتستقي هذه الفكرة حضورها من الألعاب الإلكترونية الصغيرة الحجم، إذ يكفي القارئ المشترك بأسطوانة صغيرة أن ينقر على زاوية الصفحة أو بطاقة الذاكرة أو «الموديم» لتأمين الاتصال بقواعد المعلومات وينابيع الصور والوثائق لقراءة المقالات التي يريد.
نحن على طريق الانقراض، وقد نصل فيه إلى متاحف، تخبّأ فيها الكتب كما اللوحات والرسوم، ليكتب تحتها: هذا كتاب أو هذه جريدة، يتفرّج عليه أحفادنا ويضحكون!
* أستاذ جامعي