مثّل انفجار الخلافات الكامنة منذ سنوات بين السعودية والإمارات، حول معظم الملفّات، التطوّر الأبرز الذي أظهرَ، وربما حتّم، الدور الكبير الذي يقوم به سلطان عمان، هيثم بن طارق، في تسويات يَجري العمل عليها وتحقّق تقدّماً ملحوظاً، في عدد من تلك الملفّات، التي كانت قد بلغت ذروة تأزّمها في زمن التناغم السعودي - الإماراتي، نتيجة مغامرات الجانبَين، كحرب اليمن، على سبيل المثال لا الحصر. وإذ اقترب الشِقاق بين وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات، محمد بن زايد، من أن يصبح علنياً في الأسابيع الأخيرة، نتيجة التراشق الكلامي بين مقرّبين منهما، إلّا أنه كان يعتمل في الخفاء منذ سنوات، وتحديداً منذ أن بدأ الأوّل تنفيذ مشاريعه التي تهدف إلى الاستيلاء على دور الإمارات كمركز إقليمي مالي وتجاري، وخاصة بعد قراره حظْر تعامُل الجهات الحكومية السعودية مع الشركات العالمية التي لا تقيم مقارّها الإقليمية الرئيسة في المملكة، ما أدّى إلى هجرة جماعية للعشرات من هذه المقارّ من دبي إلى الرياض.وكان أحد نتائج الخلاف السعودي - الإماراتي، انفتاح ابن سلمان على السلطان، إذ نظّم له استقبالاً حارّاً حين قام بزيارة دولة إلى السعودية في تموز 2021، جرى خلالها توقيع اتّفاقات ترفَع مستوى الاستثمارات السعودية في السلطنة، وأُعلن عن فتح طريق الربع الخالي الذي يربط البلدَين، بما يشرّع الباب أمام تَوجّه جزء من السياحة السعودية إلى عُمان التي تمتلك عناصر جذب في هذا المجال، على خلاف دول الخليج الأخرى. لكن الأهمّ ما أورده حساب "العهد الجديد" السعودي المُعارض قبل أسابيع، عن أن ابن سلمان يستغلّ «علاقته القوية» مع ابن طارق في التنسيق لإقامة منطقة حرّة في عُمان على بحر العرب، في تدبير يهدف أساساً إلى مواجهة أبو ظبي وإضعاف سطوتها في المنطقة.
وبعدما كان التناغم السعودي - الإماراتي يحصل على حساب السلطنة التي كانت وما زالت تختلف مع الجانبَين على الكثير من القضايا، صار خِلاف الرياض وأبو ظبي يَدفع كلّاً منهما إلى محاولة التقرّب من مسقط، ما يُعظّم دور الأخيرة. فلم يكن ابن زايد ليَترك ابن سلمان يستأثر وحده بالعلاقة مع هيثم، كما أنه ليس من المنطقي أن يضع الأخير أيضاً كلّ رهاناته على التحسّن المستجدّ في العلاقات مع السعودية. ونتيجة لذلك، قام رئيس الإمارات بزيارة دولة إلى السلطنة في أيلول الماضي، ثمّ نظّم قمّة سداسية في أبو ظبي في 21 كانون الثاني الماضي، حضرها شخصياً السلطان الذي لم تشارك بلاده على هذا المستوى في قِمم عربية أو خليجية منذ زمن بعيد. وقدّمت الإمارات، تلك القمّة التي ضمّت أيضاً قطر والبحرين ومصر والأردن، بوصفها تحالفاً جديداً بديلاً للتحالف الرباعي الذي فرض «حصاراً» على قطر عام 2017 وضمّ كلّاً من الإمارات والسعودية ومصر والبحرين، وفق ما اعتبر الأكاديمي الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، المقرّب من ابن زايد. ولا يعني ذلك انتهاء التوتّرات التي لمسقط مع كلّ من الرياض وأبو ظبي، خاصة أنه في الحالة الثانية، ينطوي الأمر على خلاف حدودي مزمن وتنافس تاريخي يعود إلى زمن نشأة دولة الإمارات عام 1971، على جزء كبير ممّا كان يُعرف بـ«إمارات الساحل العماني المتصالح».
وتتأتّى قوّة الموقع العُماني كوسيط في ملفات مختلفة، من تموضع متميّز مبكر للسلطنة يعود إلى عهد السلطان الراحل، قابوس بن سعيد، حين اتّخذت موقف الحياد النسبي فيها، ولا سيما منها الملفّ النووي الإيراني الذي لعبت مسقط دوراً كبيراً في التوصّل إلى الاتّفاق الأصلي حوله عام 2015، ثمّ في محاولات إحيائه المستمرّة حتى الآن، وفق ما يشير إليه الكلام المنسوب إلى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، عن أن السلطان سيزور طهران قريباً حاملاً معه «أخباراً سارّة» بشأن المفاوضات النووية، وإنْ كانت واشنطن ردّت على ذلك بأن إحياء الاتفاق «ليس على جدول أعمال الإدارة الأميركية حالياً، مع أنها تَعتبر الديبلوماسية الطريقة الوحيدة للتعامل مع برنامج إيران النووي». ويَحضر، أيضاً، الدور العُماني الكبير في تقريب المفاوضات بين السعودية و"أنصار الله" من التوصّل إلى هدنة طويلة الأمد في اليمن، ووساطات عودة سوريا إلى "جامعة الدول العربية" التي أصبحت ممكنة أكثر من أيّ وقت مضى منذ بدء الأزمة عام 2011، نتيجة العودة العربية إلى هذا البلد من بوّابة المساعدات الإنسانية بعد الزلزال التركي - السوري. ويُسجّل في السياق، التزامن بين الكلام عن نيّة السعودية استئناف العلاقات مع دمشق، وبين استقبال السلطان هيثم، الرئيس السوري، بشار الأسد، في مسقط قبل أيام.
بعض هذه الملفّات كانت في الماضي سبباً لتوتّر العلاقات بين السلطنة ودول خليجية أخرى، ولا سيما السعودية، التي أخذت على الأولى حيادها في حرب اليمن التي أطلقتْها المملكة عام 2015 بزخم كبير وشكّلت لها تحالفاً عريضاً؛ وعلاقتها بحركة "أنصار الله"؛ ودورها في المفاوضات النووية التي عارضتْها الرياض، كما أبو ظبي. ولكن الموقع العُماني ذاك، تحوّل اليوم إلى عامل يقرّب السعودية من السلطنة طلباً لمساعدتها في انتشال ابن سلمان من المستنقع الذي وقع فيه في اليمن، ومن فشله في الكثير من المغامرات التي زجّ بلاده فيها منذ تولّيه وزارة الدفاع عام 2015، ومن ثمّ منصب وليّ العهد في انقلابه الشهير عام 2017، حين ركّز كامل السلطة في يده.
على أن أهمّ نتائج سياسة عُمان والتحرّكات السلطانية، ستنعكس على موقع السلطنة وتأثيرها داخل الساحة الخليجية، حيث كان دورها في السابق محدوداً، يعبِّر عنه غياب التمثيل الرفيع الدائم في القِمم والمؤتمرات الخليجية، وهي قمم كانت إمّا تعجز عن الفعل في أحسن أحوالها، أو في أسوئها تنتهي بتسعير الخلافات الداخلية بدل أن تحلّها. لكن في خضمّ كلّ هذه التغيّرات، ثمّة سياسة تتشارك فيها معظم أنظمة الخليج، بما في ذلك عمان، وتسير في اتجاه واحد، هي التطبيع التدريجي مع العدو الإسرائيلي. وفي هذا السياق، يندرج إعلان هيئة الطيران المدني العُمانية فتْح المجال الجوي العُماني، أمام جميع الناقلات الجوّية المدنية، ما سيمكّن شركات الطيران الإسرائيلية من استخدام ممرّ سعودي - عماني لاختصار أوقات الرحلات إلى آسيا. ونال السلطان «شكراً» من وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، على تقليصه «الكلفة على الإسرائيليين ومساعدة شركات الطيران الإسرائيلية على أن تصبح أكثر تنافسية». ويُتوقَّع أن يثير هذا القرار و«الشكر» استياءً في الشارع العُماني المعارض بشدّة لأيّ تطبيع مع الكيان، لا سيما وأنه يتزامن مع تصعيد العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.