لم يبق من الديكتاتور سوى لعنته وحكايات عن أيامه الأخيرة. غياب تؤكده تفاصيل على لسان الندماء والمقربين. الرجل اختفى في غيبوبة بعد وفاة حفيده، زهد في الحكم والإدارة، والتصق في سلطة تجعله موجوداً رغم غيابه، وابنه غائب رغم أنه موجود بقوّة في التفاصيل الصغيرة للحكم، قال للجميع وحتى يوم ١١ شباط: سننهي «التحرير» في ٣ أيام. لم يخجل من إعلان أنه هو المسؤول لا أبوه. وحكى أحد المقربين أن الأب خشي من حماقة الابن وأخفى عنه خبر التخلي عن السلطة وصحبه إلى المروحية، قبل أن يكتشف في منفاه الاختياري أنهما معاً في رحلة غياب. هذه تراجيديا تختصر أحياناً عند جمهور المنصات التليفزيونية، إلى دراما لا تنقصها بهارات عن صراعات تقودها أم (يشبهونها بأنثى العنكبوت) و«شلة» محيطة بالابن دافعت عن نفسها حتى اللحظات الأخيرة. أنس الفقي، وزير الإعلام، كتب خطابات الدفاع الأخيرة عن القصر، وجمال مبارك أجرى مونتاجاً على خطاب أجّل فيه التنحي. مجموعة تصارع زمناً وإرادة تقف على أعتاب القصر الجمهوري، وانشقاق بين أجنحة النظام توسع بهدير جماهير الثورة، وإدارات تنتمي إلى عالم كافكا الفانتازي. حكى معارضون عن احتجازهم في مكتب وزير الإعلام ساعات طويلة يوم ٢٥ كانون الثاني، بعدما أبلغ عنهم رئيس حزبهم. الرواية داعبت خيالاً تغويه أسرار من نوعية «أخطر معتقل سري يوجد تحت مكتب وزير الإعلام». صاحب الرواية رامي لكح، رجل أعمال كان هارباً بسبب القروض وعاد ليقترب أكثر من عالم السياسة بعدما كان مقرباً من أجهزة في الدولة لها علاقة بنشاطه الاقتصادي. العودة كانت قبل سقوط مبارك بفترة قصيرة، وعبر حزب «الوفد» الذي كان يدخل مرحلة جديدة على يد رجل أعمال آخر هو سيد البدوي، وكيل شركات الأدوية، ومالك شبكة قنوات فضائية، واللاعب الرئيسي في مؤامرة تصفية صحيفة «الدستور».
تحالف البدوي ولكح لم يدم طويلاً، ورواية لكح عرّت علاقة البدوي بالتنظيم السري لإدارة مصر، فهو الذي طلب من حليفه (لكح) الذهاب إلى مكتب وزير
الإعلام الذي كان يتابع عبر شاشات في مكتبه ما يدور في ميدان التحرير، وهو الوحيد الذي أدار المعركة بواقعية مفرطة: الابن هو الرئيس. واقعية أنس الفقي قادته إلى سجن المزرعة، بينما لكح خرج من الحجز الافتراضي في مكتب وزير الإعلام، متحفّزاً لدور أكبر.
لكح يلعب الآن بعيداً عن حليفه القديم، يكوّن حزباً هو مركز تحالف أحزاب تبحث عن نصيب في كعكة، لمنافسة تحالف آخر بقيادة حزب الوفد (والبدوي). الكعكة لم تنضج بعد، وحجز الأنصبة يبدو أنه من وحي أجهزة لا تزال تعمل بتقنيات مبارك في الحكم، إنها لعنته، تعيد طريقته في لحظات غيابه. الصراع بين رامي لكح والسيد البدوي لا يعكس صراع أجهزة، كما كان يحدث أيام مبارك، لكنه إرادة جهاز يدير الحياة السياسية بارتباك ويريد ضمان كل الأطراف، والتحكم في الصراع من خلال توظيف من يقبل التوظيف. الإدارة بالصفقات السرية، لعنة من لعنات مبارك، وفكرة الكعكة قد تكون صالحة في لحظة نضج ناقص، لكن الثورة لا يمكن دخولها في العلب الآن.
الشطار وحدهم يتصورون، بعقلية لم تتجاوز لعنة مبارك، أن الثورة علبة حلوى يمكن سرقتها. والمراهقة السياسية أيضاً تغوي الثوار بانتظار تجلي الحقيقة التي ظهرت في ميدان التحرير. نقاء الثورة عابر، مثل لحظة الميدان، صوفية، عابرة، قادرة على خلق وابتكار فعل جماعي نادر، ومبهر. الفعل الجماعي لم يتجاوز منطقة العواطف عند الأعضاء الجدد في مجموعات دخلت مسرح السياسة لأول مرة عندما تفجرت شرارة ٢٥ يناير، ومعها روح نائمة فككت الاغتراب الرافض لأي اتصال بالجماعة.
الميدان لحظة استثنائية، لا يمكنها وحدها إعادة الثقة في كل فعل جماعي، فالجماعة أو الشعب هو أزمة المرحلة الحالية. الشعب أو الجسم الكبير الذي ركبه كل ديكتاتور ليصل إلى المقعد، ويعيده إلى حظيرة، يخرج منها فقط للتصفيق واستعراضات العشق لديكتاتور يفدي شعبه، وشعبه يرد على الفداء بنداء: «بالروح بالدم نفديك».
الشعب اكتشف نفسه في الميدان، وهذا ما أسقط نظاماً اعتمد حتى اللحظات الأخيرة على الخطابات العاطفية للديكتاتور، يحرك بها مشاعر عبودية لساكن القصر. ماذا سيفعل الشعب بعد لحظة الميدان؟ سؤال لا يُفكَّر فيه إلا بالاستقطاب بين الشعب، مقدس لا ينطق عن الهوى، في مقابل الشعب لم ينضج بعد. استقطاب بلا خيال، لأن تحرر الشعب في الميدان لا يعني اكتمال لياقته السياسية بعد سنوات المراقبة عن بعد، والاحتجاج الصامت، والفرجة على
عمليات النشطاء الانتحارية. الخطوة الأولى في التحرر من فكرة الشعب، لأنها فكرة استهلكتها السلطة في تكوين كيان غامض يسهل قيادته، وبالمعنى السياسي لا يمكن الحديث عن «شعب» إلا في لحظات استثنائية، تتجمع فيه إرادات، ولو متصارعة، من أجل هدف واحد.
لكن الشعب هو طبقات وشرائح ومصالح متعارضة، والأصل في السياسة الصراع بينها، لا توحيدها في صفوف، وحشود لتقول كلمة واحدة.
التوحيد، والتوحد والحشد، كلمات لا سحر لها في لحظات الثورة، ولا يمكن استمرارها، لأن هذا أول الطريق إلى ديكتاتورية جديدة تحصل على توكيل
من الشعب لتعيده إلى النوم مبكراً. الثورة لا تزال مستمرة، لكنها بتقنيات تتيح تعدد سياسي يعبر عن مصالح اجتماعية، لا يخلق أسطورة الشعب التي يمكن سرقتها وتوظيفها لمصلحة الأقوى والأشطر في طهو كعكة وتقسيمها.
أجهزة طبخ الكعكة تتحدث باسم الشعب لتلغيه، والراديكاليون يعلون من الأسطورة لمد اللحظة الثورية إلى الأبد، كأنها بديل للواقع. هل يمكن أن تصنع اللحظة الصوفية سحرها الخاص لتطرد لعنة مصادرة الشعب، وتتيح تكوّن واقع سياسي يحترم التعدد ويرفض الإقصاء أو من يدعو إليه؟ التوافق ربما هو الأفق القريب لتكوين واقع سياسي جديد، والتوافق هو استيعاب لحظة الميدان، لا تخيل استمرارها إلى الابد.



غضب «لإنقاذ الثورة»

دعا ناشطون مصريون إلى التظاهر في 8 تموز «لإنقاذ الثورة»، وحثوا السياسيين على تجاوز النقاشات بشأن جدول الانتخابات الزمني والعودة إلى مطالب الثورة الأصلية. وكتب الناشطون على صفحة «ثورة الغضب المصرية الثانية» على موقع فايسبوك: «إلى كل القوى السياسية المتناحرة على الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً (...) أنجحوا ثورتكم أولاً، أنقذوا مصر أولاً، ثورتنا تنهار». وأضاف الناشطون على الصفحة التي تضم أكثر من 55 ألف عضو أن المطالب الأصلية المتمثلة بحماية حقوق الإنسان والحريات لم تتحقق بعد واستبدلت بجدل حول الجدول الزمني. وأدت المخاوف من فوز الإخوان المسلمين بالانتخابات المقبلة إلى تكثيف المطالب بإرجاء الانتخابات التشريعية لإعطاء الاحزاب الجديدة الوقت لتنظم نفسها. ويزداد عدد الشخصيات والمجموعات المطالبة بصياغة دستور جديد لضمان أسس دولة ديموقراطية قبل الانتخابات. وبالتالي تجنب صياغة الدستور في ظل مجلس شعب جديد قد يسيطر عليه الإسلاميون.
لكن الناشطين يرون أن هذه النقاشات مبكرة، وأن الأولوية هي لضمان حرية التعبير والمحاكمة العلنية للمسؤولين عن الاستغلال وتوقف محاكمة المدنيين عسكرياً.
(أ ف ب)